كوردستان.. 150 عاما من التضحيات

Kurd24

يختلف الكثير من المؤرخين والباحثين في الشأن الكوردي على تحديد البدايات الفعلية لنشوء الفكر والحركة القومية الكوردية في العصر الحديث، والتي كانت لها ظروفها الموضوعية الخاصة بها خلافاً عن الأُمم التي تجاورها، فيما يتفق الكثيرون منهم بأن ثورة الشيخ "عبيد الله نهري" في كوردستان تركيا، والتي اندلعت في العام 1878م، تعتبر هي البداية الفعلية الأكثر وضوحاً لنشوء هذا الفكر الكوردي الداعي للتحرر من الظلم والطغيان، إلا أنهُ وبالتأكيد لا يصلُ أي فكر إلى حالة الظهور والإنكشاف المُعلن إلا وقد مر قبلها بأطوار النمو المتكاملة لكل مرحلة وبتراسيم فعلية تشكل قالبها الفكري.

ولربما كانت حركة الأمير الكوردي "بدرخان باشا" أمير جزيرة بوتان في كوردستان تركيا في العام 1822م، ضد النفوذ المتزايد للسلطنة العثمانية في المناطق الكوردية، الرغبة الكوردية الأولى بالتحرر، إلا أنها لم تتكلل بالنجاح لأسباب عديدة، وبالعودة للماضي أكثر وكما يقول السياسي والفيلسوف الإيطالي "جوزيبي مازيني" وهو أحد الرجالات البارزين والمساهمين في نشوء الدولة الإيطالية الحديثة وإستقلالها "بأن الوطن قبل كل شيء هو الإحساس بالوطن"، هذه المقولة والتي استند عليها المُفكر الفرنسي "إرنست رينان" في تكوين نظريته حول الأُمة، وكأنها المثال الأكثر قُرباً لتجسيد الحالة النفسية والوجودية التي كان يعيشها الأمير والمؤرخ والسياسي الكوردي "شرف خان البدليسي"، هذا الشعور الذي كان يخالجه وجعله يخرج بكتابه الأبرز في التاريخ الكوردي "شرف نامه"، وهي واحدة من أقدم المصادر التاريخية المعتمدة إلى اليوم، والتي تتحدث عن تاريخ الكورد وأصولهم في العصر الوسيط، بالرغم من أنه كان ربيب البلاط الصفوي، وأضطرته الظروف فيما بعد ليصبح حليف السلطنة العثمانية، وكان يعيش وسط حالة الصراع بين تلك القوتين المتصارعتين على النفوذ، إلا أنه خرج بما أملى عليه ضميره ووجدانه تجاه شيءٍ كان يشعر به أكثر من أي أمر آخر.

ربما أن هذا الشعور قد انتاب الكثيرين من بعده، وربما يبدو هذا الأمر أكثر وضوحاً وتطوراً لدى الشاعر الكوردي الأعظم "أحمدي خاني" والذي كانت كلماته هي صورة الواقع الفعلي الذي كان يعيشه الكورد وسط حالة التشرذم وفقدان الهوية في ذلك الوقت، وربما كانت كلماته الرسالة الخالدة التي تلقتها الأجيال من بعده، والتي أشعلت نار الثورة في داخلهم، وقد تكون علاقة الإنسان بأرضه وترابه والعلاقة الخاصة بين الكورد والجبال التي حمته منذُ الأزل، هي من أشعلت في هذا الإنسان روح الثورة على الظلم، والتي بدت واضحة في ثورة الشيخ عبيد الله نهري في العام 1878م، وثورتا الشيخ عبد السلام بارزاني 1909م والشيخ محمود الحفيد في العام 1918م في كوردستان العراق، ومن بعدها ثورة الشيخ سعيد بيران في العام 1925م، وثورة الجنرال إحسان نوري باشا 1927م، وثورة ديرسم بقيادة سيد رضا في العام 1937م، في كوردستان تركيا، ولتبدأ بعدها أسطورة النضال الطويلة والخالدة للملا مصطفى بارزاني في العام 1942م، واستلام راية الثورة من بعده نجله الرئيس مسعود بارزاني مروراً بقيام أول جمهورية كوردية على يد القاضي محمد في مدينة مهاباد بكوردستان إيران في العام 1946م، والتي لم تدم سوى إحدى عشر شهراً، ومروراً أيضاً بالعديد من الثورات والحركات النضالية في كافة أجزاء كوردستان على مدى السنين.

وما أن خمدت ثورةٌ للكورد، حتى تلتها ثورة اخرى مُنجبة معها حركات وتنظيمات سياسية وثورية متلاحقة، والتاريخ الكوردي يزخر بالثورات والمناضلين والحركات الثورية التي انتشرت في كافة أرجاء تراب كوردستان وفي أجزائها الأربعة، ودفع فيها الشعب الكوردي أجيالاً من التضحيات في سبيل نيل الحقوق والعيش بكرامة وإزالة هذا التقسيم والاحتلال لأراضيه، وبالرغم من تأرجح الفكر القومي الكوردي بين الليبرالية والماركسية والإشتراكية، دون أن تظهر ملامحه الواضحة، إلا أن النموذج الكوردي النضالي في كوردستان العراق وصل إلى أعلى درجات النجاح بعد سيل من التضحيات التي قدمها في هذا السبيل مؤكدةً على أنها جزء من نضال الشعب الكوردي المترابط بين جميع الأجزاء، واليوم وبعد أكثر من قرن ونصف من النضال المستمر بكافة أشكاله، يقف الشعب الكوردي أمام  إحدى المفارق المفصلية في تاريخه، واقترابه من بلوغ هدفه الأسمى في إنشاء الدولة والكيان الكوردي الذي طالما سعى إليه، ولربما أن الكثير من دول العالم باتت تقف متسائلة عن هوية هذه الدولة الجديدة وقد يرتابها القلق منها إلا أن كوردستان رسمت رسالتها للعالم بأيدي من دافع عن ترابها من أبنائها، وبأن الكورد بالرغم من كل الويلات التي لقوها من أعدائهم سيثبتون للعالم أنهم دعاة سلام ومحبة وإنسانية، ولن تكون كوردستان دولة صهر القوميات وإرادة الشعوب كما فعلتها إيران، التي صهرت جميع أطيافها ومكوناتها القومية من الأذريين والبلوشيين والكورد والعرب في بوتقة الولاء الديني المتشدد، وتجميعهم حول فكرة ولاية الفقيه، ولن تكرر النموذج الأتاتوركي في بناء الدولة الذي بنى أعمدتها بالنار والبارود مع نشوئها الجديد وما ارتكبه من مجازر بحق الكورد والأرمن، واحتلاله لأراضي ليس له، كلواء إسكندون ومدينتا إزمير وإسطنبول اللتان لاتزالان إلى اليوم يونانيتا الطابع، ولن تكون كسلطة البعث الذي حرقت سوريا والعراق ومعهم الكورد لعقود من الزمن وزرعت الفتنة والكراهية التي لاتزال نارها مستعرة عند الكثيرين.

في هذا العصر الجديد التي بات فيه لجميع دول العالم لونهم الفني والثقافي والحضاري المميز، يبرز الشعب الكوردي للعالم بأسره محاولاً إيصال صوته للجميع بأنه يبحث عن هويته أكثر من أي شيء آخر، ويبحث عن وجوديته في هذا العالم كغيره من الدول، ولن يغنيه أو يثنيه عن هذا الأمر أي شيء، وإنه بات على العالم بأسره والدول التي تدافع عن حقوق الإنسان والحريات بالأخص أن تعلم بأن رغبة هذا الشعب ليست وليدة اليوم أو البارحة، بل هو نضالٌ عسكري وسياسي وفكري متواصل منذ أكثر من قرنٍ ونصف، ومطالبة شرعية بإعطاء الحقوق لأصحابها الحقيقيين أصحاب الأرض، والدولة الكوردية التي يريدها الشعب الكوردي إنما هي الولادة الطبيعة لهذا النضال الطويل والزاخر، والذي دفع في سبيله الشعب الكوردي الغالي والنفيس فقط من أجل العيش بكرامة وحرية وأن لا تُملى عليه إرادة الآخرين.

هذه المقالة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تتبناها كوردستان24 بأي شكل من الأشكال.