أصغر عمائري في أربيل

Kurd24

عندي أبنة، هي أصغر العمائر في العائلة، تسكن أربيل منذ أن اقترنت بشاب عربي قدر لعائلته أن تلوذ بعاصمة كردستان، بعد أن ضاقت بها المدن بما رحبت. ولأن الأب لا يستقر له بال إلا إذا تفقد أبناءه، فإني غالباً ما اغتنم أي فرصة للذهاب إلى أربيل، للاطمئنان عليها وتقبيل أحفادي من ذريتها.

وخلال سنوات طويلة من الزيارات، كنت أرى أربيل كبغداد، مع الفارق أن الأولى تحظى بالرعاية والاهتمام وتتسع بالعمران والبناء وتنامي وتائر المشاريع المنتجة. ولم تعد أربيل، خلال عقد واحد من الزمان، مقصداً للسياحة البيئية أو الطبيعية، نسبة إلى ما وهبتها الطبيعة لبعض أرجائها من جمال ووداعة فحسب، بل أصبحت مدينة حديثة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

وأنت إذا زرت أربيل اليوم، لن تراها كما هي في الأمس. فهي في حراك متسارع، أشك بأن مدينة عربية تلحق بها. والقائمون على إدارتها يتسابقون مع الزمن لتتويجها بالإنجازات البلدية والمرورية وغيرها. ولعل أبرز ما أُنجز فيها، هو استتباب أمنها وأمن مواطنيها والمقيمين فيها الذين يصح اعتبارهم (رب المنزل) كما قال الشاعر.

لم أسمع من ابنتي أو زوجها وعائلته، يوماً، شكوى من موقف أو معاناة من تمييز أو تمايز، فهي تتلقى العلاج في المستشفى مجاناً وتحصل على مصدر رزقها الحلال أسوة بأي مواطن كردي. وخلال تجوالي غالباً ما كنت أصادف اللافتات السود تنعى شهداء البيشمركة الذين قارعوا تنظيم داعش، فالعربي هناك يعيش شريكاً للكردي، وإذا ما صدر موقف عابر أحياناً، فإنه لا يفسر سوى بكونه شخصياً لا يجوز لأحد تعميمه.

وبالمقابل يفهم العربي خصوصية أربيل وجل إقليم كردستان، فيحترم القرارات ويمتثل لقوانين صيغت من أجل إشاعة نمط الحياة الجديدة، في عالم يتغير نحو الأفضل كل دقيقة. وهذه التعليمات ترتقي إلى مرتبة عليا، فيتم تطبيقها على الجميع، الوزير والغفير، القادم والمقيم. ولقد أحسنت إدارة الإقليم التصرف بوضع ضوابط أو تعليمات من شأنها تأمين تقدم أربيل سلوكياً، وليس عمرانياً فحسب.

وإذا تجولنا في المدينة فإن أبرز ما نرصده مظاهرها الثقافية والاجتماعية التي تعكس حالة ازدهار مجتمعي وتعامل إنساني وانضباط، هو قوام أي خطوات حقيقية نحو الاستقرار والتفاهم والعيش المشترك، مع الإقرار بالآمال التي يحملها المواطن الكردي بتحقيق حلمه القومي. وهذا الحلم قابل للتطور مع المستجدات الدولية على وفق الفهم، الذي يستوعبه الآباء المؤسسون، بشأن الثوابت المحلية والقواعد الإقليمية والسياقات الدولية.

وبات قديماً القول إن أربيل حلوة أو مزدهرة، فهي حلوة بأهلها وبقلعتها الشماء وبمعقولية طموحات قيادتها، التي وضعت النخبة الشابة في المقدمة، انسجاما مع توجه عصري عالمي لإعطاء فرص القيادة للجيل الحيوي من المجتمع، القادر على ترجمة الشعارات والتطلعات بالإرادة القوية والحكمة وضبط النفس الموروثين، والاستيعاب المؤكد لمستجدات المرحلة.

وبينما تغرق مدن العراق، في الوسط والجنوب، بالفوضى والصراعات السياسية على حساب تقديم أبسط الخدمات وفرص العمل والدروس المستفادة للأجيال اللاحقة، فان أربيل ومدن الإقليم تنعم بالاستقرار والأمن وتتوج بإنجازات البنى التحتية والعمرانية وتحفل بالخدمات التي يصعب حصر أشكالها أو أنواعها أو صورها اليومية.

ولعل القادم إليها يكتشف في كل مرة شكلاً جديداً أو مشروعاً منبثقاً يسابق الزمن، فالمعيار الإداري للنجاح والولاء في تصور قيادة الإقليم، يكمن بما يقدمه المسؤول، سواء كان محافظاً أم وزيراً أم مدرساً أم طبيباً أم بائعاً بسيطاً (كاسباً)، إلى أهله، وما بوسعه أن يبذل من الوقت والراحة لإسعاد غيره. فقد صادف، في ليلة صعبة عشتها في أربيل أن نقلت إلى المستشفى وغمرني الشفاء فوراً، وأنا أرى سريراً نظيفاً وتعاملاً نزيهاً وطاقماً من الشباب يحف بي كملائكة تبشر بالخير والرحمة. وغادرت المستشفى لست متشافياً حسب، بل وراضياً تماماً.

هذه المقاربة ألهمتها حادثة الأمس، التي لن تتسع آثارها بالتأكيد، من منطلق إيماني بحكمة قيادة أربيل وطبيعة أهلها المتسامحة، وقدرتهم على التصرف بأحسن ما يدل على القول المأثور إن (جميع النساء قد يلدن الذكور، لكن المواقف وحدها، من تلد الحكماء والمصلحين).

 

نقلاً عن صحيفة الزمان