أزمة الدوائر الانتخابية وجدوى تغييرها

Kurd24

لقد أُجريت في العراق أربع عمليات انتخابية برلمانية ما بين 2006 و2018، وكان لكل عملية انتخابية قانون مختلف، وكان آخرها التعديلات التي جرت على قانون رقم (45) لسنة (2013) حيث انتهت بتعديلات جوهرية ومهمة للقانون وتمت بثلاث مراحل تمهيداً لانتخابات 12 أيار 2018.

بلا شك فإن التعدد القومي والطائفي في العراق أدى به الى أزمات عديدة منها ما يتعلق بعملية الانتخاب، حيث لم تمر عليه عملية انتخابية بدون خوض جدال واسع حول قانون الانتخابات، وخاصة فيما يتعلق بتقسيم الدوائر الانتخابية، حيث تجد كل الطوائف والأحزاب السياسية مصلحتها في نوع من التقسيم. فقد كان الجدال في بادئ الأمر يرتكز على الأخذ بدائرة واحدة أو عدة دوائر، إلا أنه بعدما تم تجاوز هذه المرحلة واتفق الأطراف على تعدد الدوائر، بدأت في الآونة الأخيرة مشكلة كيفية تقسيم الدوائر وحجمها، هل تكون كبيرة أو صغيرة؟ خاصة بعد الاحتجاجات الأخيرة التي أطاحت بالحكومة المنتخبة، حيث كانت من بين مطالبها، تقسيم البلد إلى دوائر صغيرة محاولة لتقليص الهيمنة الحزبية وإفساح المجال أمام المستقلين في الحصول على مقاعد برلمانية. في هذا المقال أود تحليل إشكالية كلا النظامين على العملية السياسية في العراق.

من الانتقادات التي توجه الى دوائر الصغيرة أو (تعدد الدوائر) هي غلبة سيادة السلاح، وسيادة المال، وسيادة الجاه سواء كان عشائرياً أو دينياً أو اجتماعياً، خاصة في العراق حيث تبرز فيه هذا النوع من المشاكل بشكل واسع نظرا لهيمنة الكبيرة لوجهاء العشائرية والدينية والمذهبية، وهذا يعود للمحدودية الدائرة وصغر حجمها بحيث تسهل نفوذ وسيطرة هذه الشخصيات، بخلاف الدوائر الكبيرة التي يصعب فيها بسط نفوذ كهذا. ومن جانب آخر، يؤدي هذا النظام إلى تقليص فرص فوز الشخصيات المشهورة والمشهود لها بالكفاءة والنزاهة على صعيد الوطني كالكتاب والمثقفين والناقدين المعروفين بحسن السيرة بسبب حصر التصويت والمنافسة بدوائر ضيقة. ومع ذلك فهناك آخرون يرفضون ذلك ويعتبرون نظام التعدد وسيلة تؤدي إلى تقليص دور الأحزاب السياسية وتبرز دور المستقلين النزهاء المعروفين محلياً. 

ومن الجوانب السلبية للتعدد هو ضياع الفلسفة التي يقوم عليها البرلمان والتي اعترف بها الدستور على كون عضو البرلمان يمثل كافة الشعب، الأمر الذي يغيب تماماً في نظام التعددي، حيث تكون العلاقة بين الناخب والمرشح شبه شخصية ويقع المرشح تحت تأثير الناخبين، و يؤدي الى تحويل المرشح من عضو برلماني في السلطة الرقابية  الى  نائب خدمات يحمل ملفاته الى دوائر الدولة  ليحل مشاكل الناخبين المحلية وهذا يؤدي إلى تغيره تغييبه عن مسؤولياته الأساسية التي تقع على شأنه كبرلماني، فضلاً عن التأثير الذي يخلفه النظام على (شكل البرلمان) المستقبلي الذي يصبح شبه تجمع عشائري ومناطقي بعيداً عن المصلحة العامة، ناهيك عن الصعوبات اللوجستية والفنية التي تواجه هذه العملية خاصة في العراق حيث لا توجد هناك إحصائيات دقيقة، ولا ضمانات كفيلة بتقسيم عادل لهذه الدوائر. إلا أن هذا النظام له جوانب إيجابية أيضاً والتي تتمثل في تمثيل حقيقي ودقيق للشعب وتعزيز علاقة المرشح وضمان تحمل المسؤولية تجاه ناخبيه وبالتالي يجعله ملزماً بالعمل على خدمتهم وتنفيذ برنامجه الانتخابي، ووعوده التي قطعها للجمهور خشية من العقاب، وعدم انتخابه مرة أخرى. وهكذا يتميز نظام التعدد من الناحية الفنية بالسهولة والسرعة في إعلان النتائج بحيث تعلن كل دائرة انتخابية النتائج بدون الانتظار إلى الإعلان العام على صعيد المحافظة والذي من الممكن أن يأخذ وقتاً أكثر.

هناك إجماع بين خبراء الانتخابات حول العالم على أهمية حجم الدائرة الانتخابية باعتبارها من العناصر الأساسية التي تؤثر في قدرة النظام الانتخابي على توزيع المقاعد بشكل تناسبي.

كقاعدة عامة، فإن الاستناد على دوائر انتخابية كبيرة الحجم تحقق أعلى مستويات نسبية ويعطي الفرصة لأصغر الأحزاب على الصعود الى البرلمان. إلا أن هذا يكون للدول المقسمة سياسياً، بحيث لا يكون الثقل الانتخابي للأحزاب مبنياً على التقسيمات القومية، والدينية...الخ الموجودة في حدود جغرافية محدودة. أما الدول المتعددة الطوائف كالعراق فالوضع مختلف تماماً، حيث يتحدد الثقل الانتخابي في كثير من الدوائر بناءً على كثافة تواجد السكاني للطائفة التي تدعم القائمة، فعلى سبيل المثال يكون الثقل الانتخابي للتركمان في المناطق التي يتواجد فيها التركمان، والكرد والعرب بالنسبة الى مناطق أخرى، مما يعني أن الأحزاب الصغيرة أو المكون الصغير في دائرة انتخابية تستفيد من كثافة سكانها لضمان فوزها بمقاعد، وهذا يفيد بأن هذا النظام يكون في صالح الكتل المبنية على أسس قومية أو دينية (غير الكوتا)، أما الكتل الصغيرة ذو التوجهات المدنية فإنها لا تستفيد من هذا النظام نظراً لعدم تمركز ناخبيها في أماكن محددة.

على أي حال، إذا كانت نية الأطراف في اختيار نظام المتعدد الدوائر إعطاء فرصة للأحزاب الصغيرة والشخصيات المستقلة "ممثلي الساحات" للحصول على مقاعد فإن هذه المشكلة لا تكمن في تقسيم الدوائر وحسب، بل هناك مشكلة أخرى تقف عائقا أمام صعود الأحزاب الصغيرة وهي مسألة نظام السانتياغو والذي يعتمد أساسا على تقسيم الأصوات على الأرقام (1، 3، 5،..) وذلك بقدر عدد المقاعد، إلا أن النظام تم تعديله إلى (1.7، 3، 5،...) خلافاً لما هو متبع عالمياً والذي سمي بـ "سانتياغو العراقي" ويؤدي هذا التعديل بدوره إلى صعوبة فوز الكتل الصغيرة.

أخيراً، مهما كانت الدوافع التي دفعت بالكتل السياسية في تبني هذا النظام، سواء إتاحة الفرصة لصعود الأحزاب الصغيرة أو الشخصيات المستقلة أو عرقلة صعودهم، فإن كلا المسألتين لا تخلو من الإشكاليات. فلو أتحنا الفرصة للأحزاب الصغيرة بدخول البرلمان، فحينها نكون أمام أزمة ائتلافات وتكوين حكومة ائتلافية ضعيفة، يكون همها ترضية الأحزاب المكونة لها بدلا من خدمة الشارع. أما إذا كان الهدف هو الحد من صعود الأحزاب الصغيرة وهذا أيضاً قد يؤدي إلى حرمان البعض من الصعود الى البرلمان خاصة "ممثلي الساحات"، ولا سيما في العراق الذي يعيش في ظل ظروف خاصة ولا يمكن أن نقيسه على بلدان أخرى بمنأى عن وضعه الخاص، وحتى إن سلمنا أن الحكومة الائتلافية حكومة ضعيفة فهذا ليس بالضرورة صحيحا للعراق، لطابعه، وتكوينه الخاص والغموض في مفهوم المعارضة السياسية بسبب تقسيم مسبق وغير متغير إلى حد كبير للثقل السياسي على أسس مذهبية وقومية.

بناء على ما تقدم يمكننا القول، إن أزمة البلد لا يمكن حصرها في مسائل كهذه فحسب، فالعراق يعيش في ظل أزمات كثيرة ويحتاج الى حلول جوهرية، حتى وأن تمكنا من تحقيق بعض التقدم عن طريق أمور فنية كهذه ألا أن الكثير يبقى على حاله.