عام مضى على قرار رفع سعر صرف الدولار

Kurd24

كانت سنة 2020 من أصعب السنوات التي مرت بها دول العالم، ففيها تفشى وباء كورونا بوتائر متسارعة أدت إلى إجراءات إغلاق لكل أو اغلب فعاليات الانسان كالمؤسسات العامة والمدارس والجامعات والمحلات التجارية والمطاعم والمصانع، فنجم عن ذلك  تراجع وركود خطير في اقتصاديات سائر دول المعمورة. وتزامن هذا مع تراجع الطلب وانهيار كبير في أسعار النفط، الشريان الرئيسي للطاقة في العالم.

وقد بلغ انهيار اسعار النفط إلى ما دون 20 دولار في شهر آذار من العام ذاته لتتراجع على اثرها الى الربع الإيرادات النفطية للدول المصدرة للنفط. وكان وقع ذلك أكبر على الدول التي تعتمد اقتصادياتها على النفط بدرجة كبيرة وعلى رأسها العراق ذو الاقتصاد الريعي المعتمد بنسبة 93% على النفط، فيما كان تأثير انهيار الأسعار أقل  ‏على دول الخليج النفطية والتي طورت إقتصاداتها وقللت اعتمادها على النفط. واستفحلت في العراق أزمة مزدوجة اقتصادية ومالية، تأججت طوال العام وزرعت في النفوس مخاوف أن لا تتمكن وزارة المالية العراقية من تأمين رواتب الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام.

في ظل هذه الظروف الصعبة، طرحت حكومة السيد مصطفى الكاظمي برنامجها للاصلاح الاقتصادي والمالي، اطلقت عليه اسم (الورقة البيضاء)، وذلك في شهر تشرين الأول من العام 2020 . ثم قدمت الحكومة للبرلمان مشروع قانون الموازنة العامة لسنة 2021 راعت فيه ضغط النفقات و زيادة الإيرادات و رفع سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي من 1180 إلى 1450 دينار للدولار الواحد. وقد اثار قرار رفع سعر الصرف مناقشات طويلة وانتقادات عند عرضه على مجلس النواب العراقي، غير أن هذا القرار المقترح والذي نشر في أواسط شهر كانون الأول من العام نفسه، حظي بموافقة أغلب الأطراف السياسية النافذة في البرلمان والتي اقتنعت بالمبررات التي ساقتها وزارة المالية لتبرير قرارها الذي وصفته بالاضطراري، فأقر قانون الموازنة ومواده مع سعر الصرف الجديد للدولار في شهر آذار من العام 2021 .

مبررات قرار رفع سعر صرف الدولار

اعتبر العديد من خبراء المالية والاقتصاد العراقيين, بضمنهم شبكة الأقتصاديين العراقيين، أن السعر السابق للدولار كان غير واقعيا، وكانت هناك مطالبات من قبل اقتصاديين و مستشارين من داخل الحكومة وخارجها لرفع سعر الصرف الذي وصف بأنه مبالغ فيه ولا يعكس القيمة الحقيقية للدولار الأمريكي، وأن تغيير سعر الصرف سيعمل على إعادة توزيع الريع النفطي ‏لصالح وزارة المالية. ويضيف بعض الخبراء في شبكة الأقتصاديين, انه كان الأجدر بالحكومة ان تتخد قرار رفع العملة في سنوات الوفرة النقدية (الأعوام 2010-2013) وليس في سنوات الأزمات الاقنصادية والمالية، وقد افاد خبراء من الشبكة ذاتها، بان الرواتب والاجور التي تصرف لأكثر من 3.25  مليون موظف تستأثر لوحدها بحصة متصاعدة من الموازنة العامة. ففي السنوات الثلاث الماضية، بلغت حصة الرواتب للموظفين والمتقاعدين في العام 2019 نسبة 41 % لترتفع في العام 2020 إلى 53%  لتتجاوز بعدها الـ 67% في العام 2021 . وتعتقد وزارة المالية ان رفع سعر الصرف إلى قيم واقعية سيقلل من الفرص المتاحة لتهريب العملة الأجنبية إلى خارج البلاد.

غير ان قيمة العملة المحلية في الدول المجاورة التي كان الدولار ينقل أو يهرب إليها أنهارت هي الأخرى وبالتالي بقيت عمليات تهريب العملة تحقق مردودا وربحا لمزاوليها. وهذه الملاحظة تدعمها مقارنة كمية الدولار المباعة في نافذة بيع العملة في البنك المركزي العراقي والتي افادت ببيع مبلغا تجاوز 170 مليون دولار يوميا في شهر 11 من العام الماضي, فيما تخطت كمياتها في نفس الفترة من العام الحالي (2021) حاجز 190 مليون دولار يوميا!

المبرر الثاني هو تقليل العجز المتوقع في موازنة 2021، ففي مشروع  قانون الموازنة, كان العجز المتوقع 50 مليار في موازنة قدرت بـ 113 مليار دولار، ثم خفظتها وزارة المالية بعد المناقشات في البرلمان الى 89 مليار دولار بعجز متوقع قدره 19 ميار دولار. فخفض العملة المحلية ازاء الدولار سيوفر للحكومة فائضا نقديا بالدينار العراقي يخفف من أعباء الدولة في تامين الرواتب والنفقات التشغيلية الأخرى ويقلل العجز المتوقع في الموازنة.

وقد كان لارتفاع أسعار النفط بمعدلات كبيرة، خاصة في النصف الثاني من العام 2021، إلى أرقام قاربت ال 86 دولار للبرميل، الفضل في تحقيق ايرادات إضافية من العملة الأجنبية، تخطت 10 مليارات من الدولارات، غطت قرابة نصف العجز في موازنة العام 2021.
المبرر الثالث : دعم المنتج الوطني. ‏من المؤكد أن رفع سعر العملة سيجعل السلع والخدمات المستوردة بالعملة الأجنبية إلى داخل العراق أكبر كلفة بالدينار العراقي على المواطن المستهلك لها, الأمر الذي سيسمح للمنتجات المحلية، زراعية كانت أوصناعية، أن تنافس المنتج المستورد وأن تحقق أرباحا لم يكن بالامكان تحقيقها مع وجود منافسة من منتج أجنبي مستورد أرخص ثمنا.

‏الأسباب غير المعلنة لرفع سعر الصرف

يعتقد بعض المحللون السياسيون ان قرار الحكومة رفع سعر الدولار مقابل الدينار العراقي جاء استجابة لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وذلك بهدف إخضاع الاقتصاد العراقي لسياسات واملاءات هذه المؤسسات المالية العالمية وبالتالي جعل الاقتصاد العرقي يتبع لاحقا الاقتصاد الأميركي. فيما يذهب البعض إلى الاعتقاد أن الحكومة العراقية برئاسة السيد الكاظمي، وهي حكومة تصريف اعمال ذات عمر قصير, استهدفت بهذا القرار واجراءات اصلاحية أخرى، الى تحقيق انجازات تحسب لصالحها وقد تضمن لها التمديد لفترة ثانية بعد المصادقة على نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 10-10-2021 وانعقاد الدورة الجديدة من البرلمان.

أما خبراء الاقتصاد فاغلبهم يميل للاعتقاد بان البنك الدولي، وباعتباره من أكبر الدائنين للعراق، فان الأولوية لديه أن يبقى العراق في وضع اقتصادي ومالي مستقر يمكنه من تسديد القروض وفوائدها دونما تأخير، ومن هنا فأن اغلب توصياته للدول المدينة تركز اجمالا على اجراءات تقليل الدعم على السلع والخدمات و فرض ضرائب جديدة وخفض سعر العملة المحلية وغيرها.  

‏الأضرار الاقتصادية والاجتماعية لرفع سعر الصرف

ان رفع سعر الصرف الرسمي للدولار (أو خفص قيمة الدينار مقابل الدولار) من 1180 الى 1450 دينار للدولار الواحد يمثل زيادة بنسبة 23% من سعر الصرف السابق. غير أن سعر أن العملة في الأسواق أرتفع ليستقر بعدها عند حدود 1480 دينار للدولار الواحد لتصبح الزيادة في قيمة الدولار 25%. إلأ أن الذي حصل في الأسواق التجارية, ارتفاع وتضخم في اسعار السلع والخدمات وصل إلى نسبة 30 و40 وأحيانا الى 50% , ربما لأن الكثير من التجار فرض أسعارا استباقية تضمن لهم الأستمرار في تحقيق الأرباح حتى لو أرتفعت أسعار الدولار إلى أرقام أعلى وهي 1500 او 1600 دينار للدولار الواحد. وبفعل ذلك، أصبح تأثير ارتفاع العملة الأجنبية أشد وطأة على المواطن البسيط  الذي انخفضت قدراته الشرائية بالنسب المذكورة أعلاه، خاصة وأن البدائل المحلية أو المنتجات الوطنية والتي تسعر بالدينار قليلة جدا في الأسواق المحلية, ‏كما أن حوالي 70% من كل السلع والخدمات المجهزة محليا تعتمد اما على مواد أولية مستوردة بالدولار أو على أيدي عاملة أجنبية تتقاضي اجورها بالدولار الأميركي. وقد سبب تراجع الوضع المعيشي للمواطن تبعات اجتماعية سلبية تهدد تماسك واستقرار الأسر والمجتمعات الفقيرة, فنسب الفقر  للعام الحالي لاتزال مرتفعة عند حدود الـ 30% رغم وجود استراتيجية لوزارة التخطيط لخفضها الى 25% في نهاية العام 2022. 

وتداركا للتضخم المتوقع في كلف السلع والخدمات جراء رفع سعر الصرف، اعتمدت  وزارة المالية في المادة (2-اولا- د) في قانون الموازنة للعام 2021 تخصيص مبلغ 100 ملياردينار (تمثل 5% من موازنة اعمار وتنمية المحافظات) وذلك ضمن تخصيصات استراتيجية التخفيف من الفقر, غير أن هذا المبلغ لم يكن كافيا بأي حال لتخفيف الأضرار الأقتصادية التي لحقت بفئة صغار الموظفين وذوي الدخل المحدود والكسبة وغيرهم. ومن المفارقة أن البرنامج الإصلاحي الاقتصادي الذي طرحته حكومة السيد الكاظمي والمسمى (الورقة البيضاء)  يدرج ضمن أهدافه العامة (الصفحة رقم 7) هدف (حماية الفئات الهشة في المجتمع) , لكن قرار رفع العملة الأجنبية والذي اطاح وبشكل مفاجيء بربع قيمة الدينار العراقي، ونال بقدر أكبر من القدرة الشرائية للمواطنين، لا سيما ذوي الدخل المحدود منهم، لا يؤدي بالتاكيد إلى تحقيق هذا الهدف بل الى نقيضه.

المتعارف أن اغلب الدول والحكومات تحرص دوما على دعم عملتها المحلية وتعتبرها رمزا وطنيا وسياديا وتبقي على احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية في بنوكها المركزية لدعم العملة المحلية وابقائها قوية ولا تقرر تخفيض قيمتها وبنسبة كبيرة كما حصل في موازنة العراق للعام 2021 .

وفي الختام سؤال، هل نحن بحاجة الى أن نذكر الحكومة الحالية وأصحاب القرار فيها أن واجباتها (وليست أفضالها) ان تؤمن لمواطنيها حياة كريمة وخدمات مستحقة ومعيشة لائقة ولو في حدودها الدنيا، لا أن تخرج بقرارات (كقرار رفع سعر صرف الدولار)، يربح الحكومة ويضر بالمواطن في معيشته وقوته .