أخيراً.. أوربا تواجه الواقع غير المتوقع

Kurd24

لن أتكلم في هذا المقال عن تفاصيل الحرب الروسية الأوكرانية لأنها أصبحت متاحة ومعروفة لدى الجميع، كما أنني لن أتكلم عن أسباب هذه الحرب التي غدت واقعا مفروغا منه، وها هي ذي تدخل أسبوعها الثالث، فالمبررات والأسباب التي قدمها طرفا الحرب للعالم والتي حاول كل واحد منهما أن يثبت حقّه سواء في شنّ الحرب من قبل روسيا أو الدفاع المستميت عن الوطن من قبل أوكرانيا .

لكن الذي لفت نظري هنا والذي سأركز عليه في هذا المقال هو الموقف الأوربي الغريب نوعاً ما من هذه الحرب، وعندما أقول الغريب فهو أمر لا يستدعي الكثير من التفكير، فخلال العشرين سنة الماضية – على سبيل المثال -  شهد العالم عدداً من الحروب في أماكن شتى من العالم سواء في أفريقيا أو في آسيا بل حتى في أوربا ، وكان موقف الدول الأوربية  فيها جميعاً، موقف المتفرج في كثير من الأحيان، أو المؤيد تأييداً محدوداً في أحيان أخرى، قد يتحول موقف بعض الدول منها الى الشجب والاستنكار وتقديم المساعدات الإنسانية أوالعسكرية لطرف على آخر، وظل موقف المراقب لتطورات تلك الحروب هو السائد والملازم لهذه الدول، وربما تطور الأمر فاتخذت بعض هذه الدول موقفاً معيناً خلال  مناقشات مجلس الأمن فأبدت قلقها أو استياءها من بعض الإنتهاكات التي تقوم بها أطراف معينة في هذه الحروب، أو قامت بإعداد مشاريع معينة لوقف إطلاق النار أو فرض عقوبات معينة على هذ الطرف أو ذاك، وقد تكرر ذلك عدة مرات على الرغم من النتائج الوخيمة والخطيرة والمدمرة لهذه الحروب، والتي أدى الى بعضها الى تدمير دول بعينها، وتشريد الالاف بل الملايين من شعوب تلك الدول، ناهيك عن التغيير والجتماعي للخريطة السياسية للمنطقة، كما حصل في حرب أمريكا مع أفغانستان، أو حرب الكونغو الديمقراطية، أو الحرب في اليمن على سبيل المثال، على أن هناك حروباُ أخرى وقعت داخل أوربا نفسها، كالحرب التي وقعت بين روسيا وجورجيا او مع الشيشان ، وإذا كانت بعض هذه الحروب بعيدة عن أوربا جغرافيا إلا أن الحربين الأخيرتين كانتا قريبتين جدا من حدودها، فلماذا كان الموقف الأوربي فيها جميعاً مختلفاً بكل المعايير ومغايراً لما تفعله في هذه الحرب تحديداً؟

ولعل الإجابة على هذا التساؤل يكمن في أن الدول الأوربية بدأت تتحسس خطورة هذه الحرب، وباتت تدرك أنها اقتربت كثيراً من حدودها، وأن أحلام روسيا في إستعادة أمجاد الدولة السوفياتية السابقة قد أصبح يشكل تهديداً حقيقياً لوجودها، وسرعان ما ظهر للجميع أن هذه الحرب تدار من قبل طرفين أو جهتين قويتين تمثّل الأولى روسيا بكل قوتها العسكرية التي طالما شكلت قلقاً متزايداً لجميع الدول الأوربية، ولطالما غرّدت هذه الدولة خارج السرب الأوربي، وكانت جميع مواقفها مغايرة لموقف الدول، وكانت أوربا تغض النظر عن جميع هذه التصرفات والمواقف، أما الطرف الثاني فيتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية من جهة والدول الأوربية من جهة ثانية والتي كانت تعد المواقف الروسية السابقة، وتصريحات قادتها لا تخرج عن دائرة بحث روسيا الحثيث والمستمرعن دور إقليمي وعالمي تحاول من خلاله أن تثبت لنفسها أولا وللعالم ثانيا أنها قوة سياسية وعسكرية مؤثرة وفاعلة في العالم، وأن دورها لا يقل بأي حال من الأحوال عن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في العالم.

فما الذي تغيّر الآن ؟ وهل أدركت أوربا فجأة خطورة روسيا والتهديد الذي تشكلّه على أوربا؟ ولماذا كانت الدول الأوربية الكبرى كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا غافلة عن هذا الخطر الكبير الذي لا يبعد عنها سوى كيلومترات قليلة؟ وهل كانت أوربا من خلال سياسة النأي بنفسها تحاول إبعاد نفسها عن الصراع الذي كانت تتصوره صراعاً روسياً أمريكياً ، لا دخل لأوربا فيه؟

وهناك العديد من الأسئلة الأخرى التي لا تقل عن هذه الأسئلة عمقاً وصعوبة، قد تعطينا الإجابة عنها تصوراً واضحا ودقيقاً لطبيعة موقف الدول الأوربية، وردود أفعالها القوية وغير المسبوقة التي أبدتها هذه الدول قبل بدء الحرب وأثناءها، والتي تمثلّت في فرض عقوبات سياسية وعسكرية وإقتصادية على الدولة الروسية وأبرز قياداتها، هذه العقوبات التي لم يعرف لها العالم مثيلاً، حتى أنها وصلت حدّ حظر روسيا من استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، وبالمقابل تأييد أوكرانيا تأييدا مطلقا وعلى كافة الأصعدة والمجالات، وكأنّ وحدة الموقف الأوربي تجاه روسيا تجعل المرء يتخيل أن الحرب واقعة بين روسيا وأوربا وليست محصورة بأوكرانيا فقط.

ويبدو أن أوربا قد أدركت أخيراً أنها باتت تواجه تحدياً حقيقيا يهدد وجودها، ويزعزع القيم والمبادئ الحضارية والإنسانية التي عملت على ترسيخها منذ سنوات عديدة وتحديدا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت تتصور ان المآسي والكوارث التي عانت منها أوربا جرّاء الحربين العالميتين، أو التي تعاني منها دول العالم المختلفة، بعيدة عن أوربا ولا يمكن بأي حال من الأحوال وصولها، وأن ذكريات الحربين العالميتين وآثارها المدمرة، قد أصبحت من الماضي الذي لن يعود، وأن تكرار تلك المآسي في القارة العجوز بات أمراً أشبه بالمستحيل ان لم يكن مستحيلاً فعلاً، ولكنها صحت فجأة على واقع أقلق تلك القيم والمفاهيم وبات يشكل خطراً حقيقيا على وجودها، ولعل ذلك الموقف بدا واضحا من خلال  تشبيه قيادات كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا ومع بداية الحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهتلرالجديد، مع ما يمثله هذا التشبيه من تصور حقيقي لإدراك أوربا العميق لخطورة الموقف، وأنّ ما يقوم به الرئيس الروسي، لا يختلف كثيراً عما كان يقوم به الزعيم النازي هتلر قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، حتى غدا دفاع أوربا عن أوكرانيا دفاعاً عن وجودها، وأصبحت أوكرانيا تمثّل خط الدفاع الأوربي الأول عن جميع الدول الأوربية، وباتت أوربا جميعها تراقب عن كثب ما يحصل في أرض المعركة، وتعدّ العدة الحقيقية لمواجهة التطورات التي ستسفر عنها هذه الحرب المفتوحة على جميع الإحتمالات.

ملاحظة: الآراء التي ترد ضمن قسم المقالات تمثل آراء الكتّاب ولا تعبر بالضرورة عن رأي كوردستان 24.