الطيف، معبر إلزامي للتفاوض

Kurd24

السياسة في العراق مصابة بعطب بنيوي لا بد من الاستعانة بفلسفة الفيزياء لأجل الاقتراب من تحليل واقعي لها. والسياسة في العراق تتجدد كل أربعة أعوام مخلفة تشوشا هائلا لا يقتصر تأثيره على البلد وحده إنما يلقي بظلاله على الجيران ويفتح شهية العالم للتدخل أيضاً، ومثلما انشغل العالم بأكمله تقريبا بأجراء انتخابات عراقية مختلفة تحت رقابة أممية شاملة ينشغل اليوم أيضاً بمتابعة حثيثة لما ستفضي عنه نتائج هذه الانتخابات من تحالفات يمكنها أن تغير مسار بلاد الرافدين باتجاه مسالك آمنة.

لكن التحالفات التي يعلن عنها بشكل يومي في منصات مواقع التواصل الاجتماعي أسرع من القنوات الرسمية أو قنوات العالم الرصينة، لم تفض الى شيء موثق وشفاف وأكيد حتى لحطة أعداد هذا المقال، تجاذبات وتبادل زيارات مكثفة بين أحزاب عتيدة وأحزاب عتيدة أخرى وبين أحزاب عتيدة وأحزاب فتية وبين أحزاب عتيدة وكتل فتية وبين أحزاب فتية وكتل فيتة، وجميعها تقريبا لم تفضي الى شيء أكيد طالما أن الملف بأكمله لازال على رفوف المحكمة الاتحادية العليا، البات النهائي في كل أحكام البلد ،بما في ذلك المصادقة على نتائج الانتخابات من عدمها ،والتي نتوقع أن تصادق عليها نهار 20 من هذا الشهر ،لكن الحراك مطلوب، واذا اردنا أن نختار وصفا مناسبا فإننا سنقول (مرغوب) ومرغوب بحماس، لا سيما أن المتصدر على الفائزين هو الصدر، ولطالما شهدنا جميعا تصدر الصدر جميع المشاهد السياسية التي شهدها العراق.

هناك حراك نشط وهناك تحالفات خاملة لازالت في طور التفاوض، فالجميع يريد ولكن الحصول يتطلب تنازلات، وليس الجميع  قادر على التنازل، تحتمل هذه المفردة تفسيرات كثيرة، الذين يفكرون بالمغانم يمنحوها بعدا رياضيا فيلتهموها ويلتهمها معهم الذين يرغبون بدخول السباق لأسباب تتعلق بسحق أو إغاظة خصومهم، هناك من يفسرها بأمر يتعلق بكرامة حزبه وتأريخه، التنازل شيء لا يحتمل، لكن هؤلاء يفكرون بضرورة حل استراتيجي لمشاكل بلاد الرافدين ،فيتنازلون عن بعض استحقاقاتهم لأجل تعبيد الطريق أمام العربة المتهالكة أصلا. لكن التنازلات ليست الصفة المرهقة الوحيدة في العرف السياسي، يتكبد السياسي العتيد الكثير من الخسائر التي تتعلق بكرامته وكرامة حزبه عندما يضطر مثلا للتفاوض مع أشخاص كانوا يرضعون الحليب الصناعي عندما كان هو يشارك الوحوش شرابها أيام نضاله أو أفني سنوات شبابه معارضا في السجون. يقنع السياسي العتيد نفسه بان التنازل الذي يجلب منفعة لجمهوره أو شعبه هو تنازل حميد، فيتنازل.

التحالفات التي تشكلها كتل كبيرة مع كتل اصغر منها إنما تحصل بسبب امتلاك الكتل الأكبر الشروط التي تؤهلها للحفاظ على التنافس إلى أطول وقت ممكن في ماراثون تشكيل الحكومة وأيضاً فرصة المناورة واختيار كتل مناسبة للتحالف معها، وهذه الشروط الكاملة تمتلكها الكتل الحائزة على العدد الأكبر في الانتخابات ويمكننا تسميتها بكتل الشروط  الكاملة أي المثالية فيما تفتقد الكتل الفائزة بمقاعد اقل منها  لجزء من هذه الشروط، ولذلك أيضا يمكننا تسميتها بكتل الشروط المقبولة والمقبول لا يرتقي الى مستوى المتكامل الذي هو الكامل ويمكننا تسميتها بالواقعية أي واقع حال، والواقعية هي الكتل التي لا يمكنها التنافس إلا ضمن اطار المجموع، عكس المثالية التي يمكنها المطاولة والمناورة لامتلاكها شروط الدخول الى الحلبة بكامل أدوات المصارع العتيد.

التحالفات التي تجري الآن في الخفاء والعلن، في الواقع والخيال، لا ترتقي جميعها الى مستوى التحالف المتين، والتحالف المتين هو الذي تكون أجزاءه متماسكة وهذا المفهوم الفيزيائي البحت لا يحدث في السياسة إلا ما ندر.

يمتلك المراقب السياسي البارع مخزوناً من الذكريات عن سيرة كل حزب تقريبا ،بما في ذلك علاقاته مع الآخرين كحكومة وكجماهير وكأحزاب. ولذلك يستطيع هذا المراقب ومن خلال استرجاع الذاكرة قليلا إن يقيس كمية النجاح أو الفشل الذي ستفضي إليه أي تحالفات بين حزبين، فمثلا هناك حروب وإرهاب وقضم خرائط واجتثاث وتغييب وتهميش ونزوح وتناحرات وفشل سياسي ذريع تم تواطأ بعض الأحزاب في إنتاجه وإرغام عجلة البلد على الترنح في مستنقع آسن ، وهناك كتل فتية تم تخصيبها سريعا بسماد اقتصادي وسياسي محلي ومستورد فتسلقت عبر طفرة نوعية حتى غطت الأفق. في المقابل هناك كتل تحتفظ بتاريخ ظلت حريصة على النأي به عن مناطق التلوث، وهناك كتل لم تشارك في العملية السياسية الحديثة منذ تحولات 2003 وما بعدها لذلك هي حذرة في اختيار التحالفات خشية على بكارتها السياسية، ومن البديهي جدا أن نرى وجود توائم تام بين الأخيرين، هذا مناضل نظيف وهذا سياسي جديد يتناسب طرديا مع التنافر بينهما وبين الصبغتين الأوليتين، ولكن بالمقابل هناك تشابكات معقدة في العمل السياسي العراقي يكون فيها الطيف معبرا الزامياً للوصول الى حكومة متفق على شكلها ولونها سلفا. تذكرنا هذه التشابكات بحكاية من الموروث الشعبي تتحدث عن فلاح قروي رغب بالعبور مع ممتلكاته الى الضفة الأخرى من النهر، ولعدم تكافؤ العلاقة بين ممتلكاته وتشكيلها تهديدا وجوديا لبعضها وعدم إمكانية جمعها في قارب واحد، احتاج الراعي الى تفكير عميق علمته إياه الطبيعة لحل المشكل، ويحتاج العراق الى خوارزمية رهيبة للعبور بأشيائه إلى الضفة المقابلة بسلام.