مجاهيل معلومة

Kurd24

يقول إيمانويل كانت، وهو فيلسوف ألماني من القرن السابع عشر (إن اكبر شر يصيب الشعوب المتمدنة ناشئ عن الحرب، لا بمعنى الحرب الحاضرة أو الماضية، بل بمعنى دوام الاستعداد للحرب القادمة)، تستوقفنا العبارة الأخيرة تحديداً من هذه الحكمة الدسمة، الاستعداد للحرب هو الذي يلتهم القدرات المادية والنفسية للدول والقبائل والأفراد أيضاً، استنزاف قدرات القوة المادية، قضم التماسك المجتمعي المتأتي من قضم القوة لجزء من حصة الاقتصاد، الانشغال بالسلاح والقلق من المستقبل ونسيان الوعي والثقافة، بروز الفوارق الطبقية بسرعة تخرج عن المألوف.. كل هذه الأعراض المرهقة ترافق طقوس الاستعداد للحروب أكثر من نتائج الحروب نفسها.

تتظافر قوتان لأشغال الدول بالاستعداد للحرب هنا في الهلال الخصيب ومعه إقليم كوردستان طبعاً، وهاتان القوتان تغذيان بعضهما بحتمية وجودهما معاً على الساحة رغم التنافر العقائدي بينهما، بل أن كل واحدة منهما تطعم الأخرى بجرعة منعشة كلما تعرضت الأخيرة لضربة موجعة، ذلك أن وجود وفاعلية احدهما هو ضرورة قصوى لشرعنة وجود الأخرى، نتحدث هنا عن تنظيمين شغلا العالم بسلوكهما المشين والمربك معاً، احدهما ما يسمى بتنظيم الدولة وما تم اختصاره بمفردة (داعش) والثاني هو ميليشيات (منفلتة) تصول وتجول في العراق وتمسك خارطته من أذنيها، الأول تنظيم سني بالضرورة، والثاني تنظيم شيعي بالضرورة أيضاً، لديهما تنافر عقائدي صريح، ولديهما مصالح مشتركة لإحلال الفوضى، هذه المصالح تغذيهما وتحكمهما بنظرية مع دول كثيرة تسمى نظرية التخادم، خذ السلاح والمال من يدي  وكن ذراعاً لي.

لسنا بصدد السعي بعيداً في هذا الموضوع القادر على استنزاف كل مجلدات العالم، يسعنا فقط التطرق إلى مخلفات هذا الموضوع على إقليم كوردستان على ضوء الأحداث الأخيرة التي تعرض لها الإقليم ابتداءً من زخات الصواريخ على مطاره وأحيائه الآمنة من قبل ميليشيات (منفلتة) وانتهاءً بهجمات شرسة لداعش على سواتر البيشمركة الأشدّاء.

الإقليم الكوردي تعامل مع التنظيمين بحكمة وشجاعة بالغتين، الصبر والحكمة والتروي تجاه الميليشيات المنفلتة قبل اتهام جهة معينة بإطلاق الصواريخ، ثم وعبر منظومة أمنية رصينة تمكن من جمع الأدلة والخيوط والقبض على أفراد لهم علاقة بالجرم المشهود، فأعلن خطاباً شفافاً واحداً لم تتعدد التصريحات حوله مثلما لم تتعدد الجهات الأمنية وتتشظى وتتنافر للعمل عليه، فهناك جيش واحد معلوم ومنظومة أمنية واحدة معلومة وقائد واحد ورئيس واحد، وطمأن الإقليم مواطنيه أن حراسهم لا يغفلون ولا يتعبون وإن إقليمهم سيبقى آمناً على الدوام، وبعث الإقليم رسائل واضحة الى الأعداء والحلفاء والأصدقاء مفادها أن الإقليم قوي ولا تهزه مشاغبات المراهقين، وإن الإقليم يحترم حلفاءه لأجل هزم جماعي للإرهاب وحماية السلم العالمي وإن الإقليم يشكر أصدقاءه على وقفاتهم الجادة.

والشجاعة تجاه التنظيم المتطرف داعش عندما صد المقاتلون الكورد العدوان السافر على سواترهم وأكدوا للعالم أن الإيمان بالوطن والقضية وحب الشعب والأرض يمكنهما أن يجلبان النصر بغض النظر عن شحِ السلاح وانخفاض المرتبات أو عدم توفرها أحياناً لأسباب عدة، ومثلما هناك أيضا، أعلن الإقليم خطاباً شفافاً واحداً لم تتعدد القرارات في إعداده مثلما لم تتشظَ القوات المقاتلة في التنافس على ادعاء النصر فيه، فهناك أيضاً جيش واحد معلوم ومنظومة أمنية واحدة معلومة وقائد واحد ورئيس واحد. ثم خرج الخطاب واحداً أيضا وطمأن الإقليم مواطنيه أن حراسهم لا يغفلون ولا يتعبون وان إقليمهم سيبقى آمناً على الدوام، وبعث الإقليم رسائل واضحة إلى الأعداء والحلفاء والأصدقاء مفادها أن الإقليم قوي ولا تهزه داعش وأخواتها، وإن الإقليم يحترم حلفاءه لهزم جماعي للإرهاب وحماية السلم العالمي، وإن الإقليم يشكر أصدقاءه على وقفاتهم الجادة.

في بغداد، هناك رئيس وزراء اسمه مصطفى الكاظمي، حاز الرجل على توافق أممي ومحلي واسع الطيف لسببين بسيطين، أولهما قدرته على احتواء الأزمات وفقا لمبدأ ادفع بالتي هي أحسن، والأحسن هو تجاوز الأمور الغير ممكنة إلى ما يمكن أن يكون ممكناً، أو لعله يكون ممكنا على الأقل، وهذه ليست فلسفة أو حذلقة كلامية بقدر ما هي معادلة رياضية بسبطة، فلو افترضنا جداً أن الممكن هو (س) وغير الممكن هو (ص) سنرى كمية الدماء التي ستهدر بين الممكن وغير الممكن فيما لو هب الكاظمي بحماس لصد أولئك الذين يدفعون بهذا الاتجاه، بالأخص لما بلغت شهية الميليشيات المنفلتة الرغبة بالتهام رئيس الوزراء في منزله العائلي. والكاظمي يعرف جيدا أن إحدى الخيبات الأمنية التي تصيب البلد بالسوء هي تعدد مراكز القرار وفوضى الزعامات وفوضى التصريحات، لذلك غالبا ما يتم التشويش على الرسائل التي يبعثها الكاظمي لأعدائه وحلفائه وأصدقائه بعد كل هجوم تقوم به داعش أو الميليشيات على مدن العراق.

الكورد يحبون الكاظمي لعدة خصال تجمعهم مع الرجل وتجمعهم أيضاً ذكريات، فالإقليم كان معبراً آمناً له أيام هروبه من العراق زمن النظام السابق، والسبب الآخر تشابههما في هذه النقطة بالذات، الدفع باتجاه السلام، تجاوز المحن بأقل خسائر ممكنة احتراماً لأرواح الشعب، وعدم الانسياق وراء رغبات الأشرار.

الكورد ينتهجون حكمة بالغة في التعامل مع الأزمات ويعيشون الحياة ويقدمونها للمقيمين والسواح بكامل جمالها وهم متنطقون بالسلاح والشجاعة والإقدام ، لأنهم يعرفون جيداً أنه لا داعش انتهت كما يزعم البعض المتهافت للبروز في وسائل الإعلام، ولا الميليشيات المنفلتة ستكف عن توجيه صواريخها باتجاه بغداد وأربيل، ذلك انهما (داعش والميليشيات) تنظيمان مكلفان بإشغال المدينتين بالاستعداد الدائم للحرب لأسباب كثيرة، ولأنهما بكل دقة ووضوح تتغذيان من مراضع مجهولة وأخرى معلومة، فلا داعش فكرة إرهابية فقط ولا الميليشيات منفلتة كما يقال.

 

ملاحظة: الآراء التي ترد ضمن مقالات (آراء) تمثل آراء الكتّاب ولا تعبر بالضرورة عن رأي كوردستان 24.