العراق... إلى أين؟

Kurd24

بعد عام من الانتخابات والإخفاق لثلاث مرات، انتخب البرلمان العراقي يوم الخميس الماضي في جلسة خاصة رئيس الجمهورية الذي أدى اليمين الدستوري وكلف محمد شياع السوداني في نفس اليوم بتشكيل الحكومة الجديدة. وقد شكل تقديم السوداني كمرشح لرئاسة الحكومة من قِبَل قوى الإطار التنسيقي الذي يضم عدداً من الكتل السياسية، منها دولة القانون بقيادة نوري المالكي وائتلاف النصر بقيادة حيدر العبادي بالإضافة الى كتل شيعية أخرى، أحد الأسباب الرئيسية للأزمة السياسية المحتدمة التي حالت دون تشكيل الكابينة الجديدة للحكومة الفيدرالية حتى الآن. إذ تم رفض السوداني لتولي منصب رئيس الوزراء بسبب انتمائه لكتل سياسية متهمة بضلوعها في عملية الفساد الممنهجة وبعدم ولائها للدولة العراقية. واستمرت الحوارات والمفاوضات والسجال بين القوى السياسية لحوالي عام حول هذا الموضوع حتى وصل الحال بنزول أنصار التيار الصدري الى الشوارع والاعتصام داخل مجلس النواب العراقي بعد اقتحامه، مما أدى الى مواجهات دامية بينهم وبين أنصار الإطار التنسيقي الذين نزلوا أيضاً الى الشوارع بهدف تنظيم مظاهرات مضادة. وقد تم بهذه الأحداث إضافة صورة أخرى تظهر من خلالها حقيقة معضلة الدولة العراقية التي تضل في الأساس هي ذاتها منذ تأسيسها وإن أخذت منحا آخر بعد سقوط النظام السابق في عام 2003. فهي دولة ما زالت تفتقر الى أمة تكن لها الولاء. واليوم باتت هذه المعضلة تفرز تداعياتها بصورة مختلفة لتمس حياة المواطن العراقي وتحكم مستقبله ومستقبل كيان الدولة. حيث تأتي الأحداث الراهنة لتكشف مرة أخرى عن عدم نجاح النخبة السياسية الحاكمة في بغداد، التي أخذت بزمام الأمور بعد الموافقة على الدستور في عام 2005 ودخوله حيز التنفيذ في 2006، ليس فقط في بناء أمة لدولة مدنية على أسس المواطنة، وإنما أيضاً في إفراز وتشكيل حكومات يقودها أفراد على أساس الكفاءة والولاء للدولة، يعملون لمصلحة جميع المواطنين بدون أي تمييز ويقومون بتوطيد سيادتها على هذا الأساس. بل على العكس، ففي حين مازال العراق يعاني من أزمات متعددة الأوجه أنتجها رؤساء الحكومات المتعاقبة بعد إقرار الدستور، والتي بلغت ذروتها بعد الانتخابات المبكرة في 2021؛ أتى إعلان المرجع الشيعي كاظم الحائري اعتزاله ودعوته لاتباع علي خامنئي، المرشد الأعلى في إيران، الإعلان الذي وصفه زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، بانه لم يكن بمحض إرادته، ليكشف بذلك عن حجم اختراق الدولة العراقية وسيادتها ليس فقط على المستوى السياسي ولكن أيضاً على المستوى الاجتماعي والديني. هذا بالإضافة الى الخروقات والاعتداءات العسكرية المستمرة لدول الجوار على سيادتها. ومن خلال دراسة تراكم الأحداث يمكن للمراقب رصد السبب الرئيسي لِما وصل إليه حال العراق، ويرى بانه نتاج لسياسات النخبة السياسية الحاكمة في بغداد وأداء رؤساء الحكومات المتعاقبة فيها منذ العام 2005، وعلى وجه الخصوص حكومتي كل من المالكي والعبادي، سواءً بسبب عدم كفاءتهم المهنية أو ضعف ولائهم للدولة العراقية أو الإثنين على حد سواء.

حيث تقول الكثير من الدراسات والأبحاث بأن فترة حكم كل من المالكي والعبادي تميزت بثلاثة خصائص رئيسية: اولها: الفساد المالي والإداري الممنهج؛ ثانياً: عدم تطبيق الدستور، خصوصاً فيما يتعلق بالنظام السياسي ومبادئ الفيدرالية والمواطنة؛ وثالثاً: اختراق سيادة الدولة العراقية بطريقة ممنهجة.

وتفيد التقارير الدولية الى أن العراق احتل اعلى المراتب على قوائم مدركات الفساد، خصوصاً، في فترة حكم المالكي والعبادي. وبحسب تقارير منظمة الشفافية الدولية تسببت سياسات حكومتيهما في تفاقم مستوى الفساد بطريقة ممنهجة، والتي مازالت تداعياتها مستمرة. فوفق تقرير العام 2019 للمنظمة احتل العراق من بين 183 دولة التسلسل الحادي عشر للدول الأكثر فساداً في العالم، أي المركز 162. وقد خسر العراق بسبب هذه العمليات الممنهجة للفساد أكثر من 300 مليار دولار، كما صرح رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي. وأدى هذا المستوى من الفساد الى التأثير المباشر على الاقتصاد العراقي والمستوى المعيشي لمواطنه. فما يتعلق ببطالة الشباب العراقي، على سبيل المثال، قد أشار تقرير لصندوق النقد الدولي في العام 2018 بأن نسبته ارتفعت الى أكثر من 40%. ونتج عن سياسات حكومتي المالكي والعبادي، أيضاً بنية تحتية شبه منهارة، وشلل في القطاع الزراعي والتجاري، وتلاشي قطاع الصناعة، علاوة على الفلتان الأمني وتفشي ظاهرة الجريمة المنظمة، بالإضافة إلى أزمات سياسية واجتماعية جدية تهدد بتلاشي كيان الدولة العراقية. فأعاقوا بذلك فرصة إعادة بناء الدولة العراقية على طراز حديث ومعاصر.

كما وتقول الكثير من الدراسات، إن هذا المستوى الضخم من الفساد في فترة حكم كل من المالكي والعبادي قاد الى إحداث أزمات سياسية واجتماعية بين المكونات والطوائف العراقية والجماعات داخل المكون والطائفة الواحدة. وتشير الى أن هذا لم يكن فقط بسبب عدم كفاءتهما المهنية لإدارة الدولة، وإنما أيضاً بسبب ضعف درجة ولائهما للدولة العراقية. فكما تظهر العديد من هذه الدراسات، لم يتم خرق سيادة الدولة العراقية بهذا المستوى منذ تأسيسها كما حصل في فترة حكمهما، وعلى وجه الخصوص من قِّبَل النظام الإيراني. إذ يمكن رصد الدور الكبير لهذا النظام في تفاقم الفساد وخلق الأزمات السياسية والاجتماعية، ليس فقط، بين المكونات والطوائف العراقية وإنما أيضاً بين الجماعات ضمن المكون والطائفة الواحدة التي تم خرقها من قِبَله. حيث قام بخلق جماعات موالية له، تعمل من داخل المكون والطائفة لصالحه ضد الجماعات الأخرى من نفس المكونات والطوائف الموالية للدولة العراقية، وقام بغرس هؤلاء في مفاصل ومؤسسات الدولة وعلى رأسها رئاسة الحكومة بهدف التحكم بالعملية السياسية. ومن هنا يمكن فهم السبب الرئيس للأزمة السياسية الحالية، والتي هي بالدرجة الأولى نتيجة لسعي وجهود النظام الإيراني والموالين له، بشتى الطرق، لعرقلة تشكيل أي حكومة عراقية يكون على رأسها من لا يكن له الولاء على غرار حكومتي المالكي والعبادي.

لذلك فإن مهمة النخب السياسية الموالية للدولة العراقية في بغداد، حتى وإن شاركت في تشكيل الحكومة، تُعّتبر صعبة للغاية في ظل الأحداث الراهنة. وللنجاح في معالجة هذه الأزمة وتخطيها لابد أن يتمحور تركيزها وأولوياتها السياسية حول ثلاث قضايا رئيسية منفصلة، ولكن متداخلة في نفس الوقت، وهي: أولاً: محاربة ومكافحة الفساد والسعي في السيطرة عليه؛ ثانياً: بناء الأمة استناداً الى مبدأ المواطنة؛ وثالثاً: يمكن الادعاء بأن نجاح القضية الأولى والثانية مرهون بمستوى درجة توطيد سيادة الدولة العراقية على المستويين الداخلي والخارجي أولاً؛ وذلك من خلال إعادة بناء وهيكلة مفاصل ومؤسسات الدولة، بالذات التنفيذية والقضائية منها، على أساس الولاء للدولة العراقية وتطهيرها من الاختراق الخارجي وصنع القرار السياسي في العراق وبالتالي تطبيق مبادئ الفيدرالية والتعددية أو حتى التوجه نحو الكونفدرالية. ولكن حسب معطيات الواقع السياسي العراقي الآنية هذا سيكون صعباً إن لم يكون مستحيلاً. ذلك، لأن المكلف بقيادة الحكومة، كما يقال، لا ينتمي الى القوى السياسية الموالية للدولة العراقية، ولهذا فالسؤال المهم في هذه المرحلة هو الى أي معسكر سيتجه رئيس الوزراء القادم وإن كان لديه النية والرغبة عوضاً عن الإرادة بأخذِ الاتجاه والمسلك الموالي للدولة العراقية. هذا، إن نجح أصلاً بتشكيل الحكومة واستطاع أن يقنع الشارع العراقي والأطراف السياسية، خصوصاً التيار الصدري، التي لا تريد المشاركة في حكومته، بإعطائه الفرصة.