رواتب موظفي إقليم كوردستان: بين قرار وقف بغداد ومأزق استقلال القضاء

رواتب موظفي إقليم كوردستان: بين قرار وقف بغداد ومأزق استقلال القضاء
رواتب موظفي إقليم كوردستان: بين قرار وقف بغداد ومأزق استقلال القضاء

مقدمة: ليست هذه المرة الأولى التي يُستَخدم فيها ملف رواتب موظفي إقليم كوردستان كورقة ضغط سياسي من قبل الحكومة الاتحادية في بغداد. غير أن المستجدات الأخيرة، والتي تمثّلت في قرار مفاجئ من وزارة المالية الاتحادية بوقف صرف رواتب موظفي الإقليم دون سند قانوني مباشر أو قرار قضائي نافذ، ثم تزامن ذلك مع انسحاب عدد من أعضاء المحكمة الاتحادية العليا عشية الفصل في الطعن المقدم من مواطنين كرد، تُعيد إلى الواجهة سؤالاً وجودياً عن حدود اللامركزية في النظام الاتحادي العراقي، ومدى حيادية القضاء الاتحادي حين يكون الطرف المتضرر هم مواطنو كردستان.

أولاً: أُسس النزاع وأبعاده السياسية:

في نهاية شهر أيار 2025، أوقفت وزارة المالية الاتحادية تحويل الرواتب الشهرية لإقليم كوردستان، بزعم أن الإقليم لم يلتزم بنقل كامل إيراداته النفطية وغير النفطية إلى بغداد وفق ما ورد في قانون الموازنة الاتحادية الثلاثي لعام (قانون2023  رقم 13). غير أن المتتبع للممارسات الحكومية خلال السنوات الماضية يدرك أن هذه الذريعة تُطبَّق بشكل انتقائي، إذ غالبًا ما تُستخدم بطريقة مسيّسة، حيث تُمارس هذه الإجراءات بحق الإقليم دون غيره من المحافظات التي تسجل نسب تنفيذ غير مكتملة للموازنات الاتحادية دون أن تُمنع عنها التمويلات.

إن الربط القسري بين تسليم الإيرادات وحق المواطنين في الرواتب يُعد خرقًا واضحًا لمبادئ العدالة الاجتماعية، ولنص المواد (14،15،16،30) من الدستور العراقي التي تنص على المساواة بين العراقيين في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص والعيش الكريم دون تمييز قائم على الانتماء القومي أو الجغرافي.

ثانياً: الدعوى الدستورية والحق في الراتب كحق أصيل:

في 1 حزيران 2025، تقدّم عدد من موظفي الإقليم، عبر فرق قانونية مستقلة، بدعوى أمام المحكمة الاتحادية العليا للطعن في القرار الاتحادي الجائر. الدعوى لم تُقدَّم باسم حكومة الإقليم، بل باسم موظفين مدنيين يتقاضون أجورهم من خزينة الدولة الاتحادية، في إشارة دقيقة إلى أن الأمر لا يتعلق بخلاف سياسي، بل بانتهاك لحق إنساني أصيل، مضمون بموجب قرارات سابقة للمحكمة ذاتها، وأبرزها القرار رقم (224/اتحادية/2023) الصادر في 21 شباط 2024، الذي اعتبر أن “امتناع الحكومة عن دفع الرواتب يُعد خرقًا للدستور، حتى لو كان الطرف المستفيد حكومة الإقليم” على حد ادعاء الحكومة الاتحادية.

وتؤكد المرافعات والدفوع المقدمة في هذه القضية أن الرواتب، بحسب مفهومها الدستوري، ليست أداة تفاوض أو وسيلة ردع، بل هي استحقاق مالي شهري يُصرف لقاء أداء وظيفة عامة.

ثالثاً: انسحاب أعضاء المحكمة وتداعياته الخطيرة:

في سابقة غير معهودة، انسحب ستة من أعضاء المحكمة الاتحادية (من بينهم ثلاثة أعضاء أصليون) من جلسة حاسمة كان من المزمع خلالها الفصل في ملف الرواتب. ووفقًا لمصادر قضائية، جاء الانسحاب احتجاجًا على “ضغوط داخلية وربط غير قانوني بين ملف الرواتب وقضايا سيادية أخرى” على رأسها ملف خور عبد الله، وملف النفط، والحدود.

يثير هذا الانسحاب تساؤلات جوهرية حول استقلال القضاء في العراق، خاصة حين يصبح أداء المحكمة مشروطًا بمدى استجابة القضاة لمناخات سياسية متوترة في بغداد. كما أن توقيت الانسحاب، بعد أن أعلن بعض القضاة تأييدهم إصدار أمر ولائي ملزم بصرف الرواتب، قد يُفسر كمحاولة لتعطيل المسار القانوني للعدالة، وليس مجرد موقف إجرائي داخلي.

رابعاً: المعايير الدستورية في تقييم الأزمة:

استنادًا إلى القانون رقم (30) لسنة 2005 المعدل، المنظم لعمل المحكمة الاتحادية، فإن انعقاد المحكمة يتطلب توفر النصاب القانوني. لكن حتى في حال استكمال النصاب شكليًا، فإن جوهر القضاء الدستوري يفرض الاستقلال، والحياد، والسرعة في حسم القضايا ذات الأثر العام. وإذا كانت المحكمة قد أصدرت سابقًا أحكامًا تُلزم الحكومة الاتحادية بصرف رواتب موظفي الإقليم دون شروط سياسية، فإن أي تراجع عن هذا النهج يُعد خرقًا لمبدأ سمو الدستور على السلطة التنفيذية.

كما أن المساواة في توزيع الموارد الوطنية ورفض التمييز بين العراقيين من المبادئ غير القابلة للتقييد، سواء عبر تعليمات تنفيذية أو تفسيرات سياسية ضيقة.

خامساً: انعكاسات الأزمة على العلاقة الاتحادية – الإقليمية:

لا يمكن فصل الأزمة الحالية عن السياق الأوسع للعلاقة غير المتوازنة بين بغداد وأربيل. إن حرمان موظفي الإقليم من مستحقاتهم الشهرية لا يعكس فقط توجهًا تمييزيًا خطيرًا، بل يفتح الباب أمام أزمات ثقة جديدة في مفهوم “الدولة الاتحادية”. وأي قرار قضائي يتراخى في حماية حق هؤلاء الموظفين لن يُفسر إلا كمشاركة ضمنية من القضاء في معاقبة الإقليم سياسيًا.

لقد ظلّ إقليم كردستان، ملتزمًا ببنود الاتفاقات المالية مع بغداد في إطار قانون الموازنة، بما في ذلك توطين رواتب موظفيه عبر المصارف الاتحادية وتوفير آليات التدقيق. ومع ذلك، فإن بغداد لا تزال تتعامل مع هذه الالتزامات بنهج مركزي متعسف يغيب عنه مبدأ الشراكة الذي ينبغي أن يُبنى عليه النظام الاتحادي العراقي.

خاتمة: ينبغي على المحكمة الاتحادية العليا، إن أرادت الحفاظ على استقلالها ومكانتها الدستورية، أن تُصدر قرارًا عاجلاً وواضحًا بصرف رواتب موظفي إقليم كوردستان دون ربطها بأي شرط سياسي أو مالي آخر. كما يجب أن يُراجع القضاء الاتحادي بنيته الداخلية على ضوء الانسحابات الأخيرة، وأن يتم تعزيز الضمانات القانونية التي تحمي استقلال القاضي من التأثيرات الخارجية. فبدون ذلك، ستتعمق الهوة بين الإقليم وبغداد، ويصبح الحديث عن الشراكة في ظل الدولة العراقية مجرد شعار خالٍ من أي مضمون.