
د. دژوار سندی
أكاديمي ومتخصص في القانون
العقلية المركزية في السياسة اللامركزية: العراق انموذجاً

منذ اعتماد دستور عام 2005، تبنّى العراق رسميًا نموذج الحكم الفيدرالي كإطار قانوني لإعادة بناء الدولة على أسس المشاركة الواسعة والتعددية في إدارة السلطة والثروات، لا سيما بعد عقود من المركزية الصارمة. غير أن الواقع العملي لهذا النموذج أظهر وجود مفارقة جوهرية، تتمثل في استمرار الدولة العراقية بإدارة النظام الفيدرالي بعقلية مركزية متجذّرة، تتعارض مع مبادئ اللامركزية المنصوص عليها. وقد أفضى هذا التناقض إلى نشوء أزمات متكررة بين الحكومة الاتحادية والسلطات المحلية، ولا سيما في إقليم كوردستان، حيث انعكس ذلك على مستويات متعددة من التشريع، والإدارة، والتوزيع المالي.
أولاً: الإطار النظري للفكر المركزي في اللامركزية السياسية:
يشير مفهوم “الفكر المركزي في السياسة اللامركزية” إلى حالة من الازدواج بين النص الدستوري الذي يقر توزيع السلطة، والممارسة السياسية التي تسعى إلى تركيز القرار في المركز. ويتجسد هذا التناقض في تعطيل العديد من المواد الدستورية ذات الطابع اللامركزي، أو تأويلها لصالح السلطة الاتحادية، إلى جانب تقويض استقلالية الأقاليم والمحافظات تحت ذرائع متعددة. وتُعد هذه الظاهرة انعكاسًا لبنية سياسية ما زالت تتحرك وفق أنماط الدولة الريعية الموحدة، رغم التحول النظري إلى الفيدرالية.
ثانيًاً: تطبيقات الفكر المركزي في التجربة العراقية:
١. تعطيل النصوص الدستورية:
يتضمن دستور العراق لعام 2005 مجموعة من المواد التي تؤسس لحكم فيدرالي فعلي، منها المادة (65) التي تنص على تشكيل مجلس الاتحاد كغرفة تشريعية ثانية، بالإضافة إلى المادة (119) التي تُجيز للمحافظات التحول إلى أقاليم، والمادة (140) – المناطق المتنازع عليها – التي تنص على آلية تطبيع، إحصاء، واستفتاء في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك. غير أن هذه النصوص لم تُفعّل حتى الآن، ما يعكس موقفًا سياسياً يُحجّم أدوات التوزيع الدستوري للسلطة، ويُبقي القرار مركزيًا رغم النصوص المخالفة.
٢. أولوية المركز في التأويل والتطبيق:
رغم أن المادتين (114) و(115) ترسمان إطارًا لتوزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم، مع إعطاء الأولوية لقوانين الإقليم في حال التعارض، إلا أن التطبيق العملي يُظهر انحيازًا لصالح المركز في قضايا حيوية، كإدارة المنافذ الحدودية، وتطبيق السياسات الجمركية، وتنظيم قطاع الطاقة والتعليم. وهو ما يؤكد أن الفهم المركزي لتفسير النصوص لا يزال هو السائد، على حساب مبدأ التوازن الدستوري.
٣. استخدام الموازنة كأداة إخضاع:
أظهرت السياسات المالية المتبعة من قبل الحكومة الاتحادية، ولا سيما في تعاملها مع إقليم كوردستان، توظيفًا ممنهجًا للموازنة العامة كوسيلة للضغط السياسي. فتأخير إرسال الرواتب، أو ربطها بشروط خارج الاتفاقات الدستورية، يُعد ممارسة سياسية تتنافى مع متطلبات الحكم اللامركزي، وتعكس استمرار عقلية الهيمنة المركزية على الملفات الاقتصادية.
ثالثاً: المحكمة الاتحادية والتكريس القضائي للمركزية:
تُعد المحكمة الاتحادية العليا، التي أُنشئت بموجب قانون رقم 30 لسنة 2005 والمعدل بالقانون رقم 25 لسنة 2021، المؤسسة القضائية العليا المكلفة بتفسير الدستور وحسم النزاعات بين السلطات الاتحادية والأقاليم. ومع ذلك، فإن مسار عمل هذه المحكمة أظهر في مناسبات عديدة انحيازًا لصالح الحكومة الاتحادية، ما أثار انتقادات مستمرة من قبل القوى السياسية الكوردية والسنية، لا سيما فيما يتعلق بحسم قضايا الموارد، والصلاحيات، والتشريعات.
وقد بلغت هذه الأزمة ذروتها مع إعلان استقالة تسعة من أعضاء المحكمة في منتصف عام 2025، في خطوة أثارت قلقًا واسعًا بشأن استقلالية القضاء. جاءت هذه الاستقالات بينما كانت المحكمة بصدد النظر في قضايا مفصلية، من بينها دعوى إلزام وزارة المالية الاتحادية بصرف رواتب موظفي الإقليم، ما دفع إلى الاعتقاد بأن دوافع الاستقالة مرتبطة بضغوط سياسية حالت دون أداء المحكمة لوظيفتها الدستورية. وتُعد هذه التطورات دليلاً إضافيًا على مدى تغلغل الفكر المركزي حتى في البنية القضائية، التي يُفترض أن تكون ضامنًا للعدالة الدستورية، لا طرفًا في النزاع السياسي.
رابعاً: الآثار السياسية والمؤسساتية للفكر المركزي:
أدت السياسات المركزية المتبعة ضمن إطار شكلي فيدرالي إلى جملة من التداعيات على مستوى الحكم والمؤسسات، أبرزها:
● تقليص دور السلطات المحلية وتحويلها إلى أجهزة تنفيذية خاضعة لإرادة المركز.
● تصاعد التوترات السياسية بين بغداد وأربيل بشأن ملفات متعددة، أبرزها النفط، والرواتب، والمنافذ الحدودية.
● اهتزاز ثقة الرأي العام بالمؤسسات القضائية، نتيجة انحياز المحكمة الاتحادية في العديد من القرارات.
● نشوء شعور بالإقصاء السياسي لدى المكونات غير المهيمنة على القرار الاتحادي، لا سيما الكورد، ما يهدد مبدأ المواطنة المتساوية ويُضعف التماسك الوطني.
خامساً: سبل معالجة الخلل البنيوي:
يتطلب تصحيح مسار الفيدرالية العراقية سلسلة من الإجراءات المؤسسية والسياسية، أبرزها:
1. تفعيل المواد الدستورية المعطلة، لا سيما تلك المرتبطة بإدارة الموارد وتقاسم الصلاحيات وتشكيل الهيئات الدستورية.
2. إعادة بناء المحكمة الاتحادية على أسس مهنية وضمان تمثيل عادل لجميع المكونات السياسية.
3. صياغة تشريعات تضمن الشفافية والعدالة في توزيع الموازنات، وتمنع استخدامها كوسيلة ابتزاز سياسي.
4. تبني آليات تشاورية منتظمة بين المركز والأقاليم، تقوم على الشراكة لا التبعية، لضمان استقرار الدولة وبناء الثقة.
خاتمة:
تُبرز التجربة العراقية تناقضًا جوهريًا بين الإطار الدستوري الذي يتبنى الفيدرالية، والممارسة السياسية التي لا تزال أسيرة العقلية المركزية. ويُعد استمرار هذه المفارقة تهديدًا مباشرًا لمبدأ الدولة التعددية العادلة، ويؤدي إلى إضعاف الثقة بالمؤسسات، وتعميق الفجوة بين المركز والأطراف. إن استقالة أعضاء المحكمة الاتحادية، والاضطرابات المرتبطة بملف الرواتب والموارد، كلها مؤشرات على أزمة عميقة في نمط الحُكم. لذا، فإن مستقبل العراق كدولة مستقرة ومتوازنة يمر بالضرورة عبر إصلاحات دستورية وقانونية تُعيد الاعتبار للفكر اللامركزي، وتُرسّخ مبدأ الشراكة في إدارة الدولة.