بالحكمة والوحدة… كوردستان تتجاوز الحصار وتصنع القرار

بالحكمة والوحدة… كوردستان تتجاوز الحصار وتصنع القرار
بالحكمة والوحدة… كوردستان تتجاوز الحصار وتصنع القرار

شهد إقليم كوردستان، منذ سقوط النظام السابق، تقلبات متعددة في علاقته السياسية والاقتصادية مع الحكومة الاتحادية في بغداد. غير أن السنوات الأخيرة كشفت عن هوة عميقة، تجسدت بشكل جلي في إجراءات مالية قسرية ضد الإقليم، تمثلت بقطع حصته المالية من الموازنة العامة، وتعطيل صرف رواتب الموظفين، وتقييد تصدير نفطه. هذا الحصار، وإن كان أداةً سياسيةً تستهدف كسر الإرادة الكوردية، إلا أنه يحمل في طياته بُعدًا آخر: فهو لحظة مفصلية تشكل فرصةً ثمينة لإعادة تشكيل الذات القومية وترسيخ أسس الاستقلال الاقتصادي للإقليم.

 

أولاً: امتداد للتهميش.. الحصار في سياقه التاريخي:

لا ينفصل الحصار الحالي عن سياق تاريخي طويل من الإقصاء والتهميش عانى منه الشعب الكوردي منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة. فكما واجه الكورد سابقاً سياسات الإبادة والتعريب ومحاولات طمس الهوية، فإنهم يواجهون اليوم شكلاً متطوراً من الصراع، يتمثل في استغلال الاقتصاد وسيلةً للضغط. قراءة هذا الحصار من منظور قومي تكشف أنه لم يستهدف الحكومة الإقليمية فحسب، بل استهدف جوهر التجربة الكوردية الناجحة في الحكم الذاتي، وضرباً لفكرة الفيدرالية والتعددية القائمة في العراق.

 

ثانياً: الصبر والتضحية.. بذور التحول في مواجهة المحنة:

في قلب هذه المحنة تتجلى سمات الشعب الكوردي: صبراً لا يلين، وإصراراً متجدداً، وقدرة فريدة على تحويل المعاناة إلى منبع للقوة. فعلى الرغم من الظروف الاقتصادية القاسية التي فرضها الحصار – من تأخير الرواتب، وارتفاع معدلات البطالة، وتدهور الخدمات الأساسية – حافظ الوعي الوطني على تماسكه، رافضاً الاستسلام أو التنازل عن الحقوق الدستورية. أثبتت التجربة أن التضحيات الجسام لا تذهب سدى، بل تشكل منعطفاً حاسماً في تطور وعي الشعوب، وتدفع نحو إبداع حلول محلية، وتمهّد الطريق للتحرر الذاتي.

الثمن الذي دفعه أبناء كوردستان لم يكن مادياً فحسب، بل نفسياً واجتماعياً عميقاً. ومع ذلك، ظل صمودهم شاهداً على حقيقة راسخة: قد يولد الضغط انفجاراً في بعض الأحيان، لكنه يلد الإبداع والنضج السياسي والاقتصادي لدى الأمم الحيوية. ومن رحم هذا الصبر، يمكن للإقليم أن يشيد مستقبلاً أكثر توازناً وأقل ارتهاناً.

 

ثالثاً: نحو اقتصاد مقاوم.. الحصار محفزاً للتحول الهيكلي:

هذا الواقع يفرض على الحكومة الكوردية اعتماد رؤية اقتصادية استراتيجية جديدة، تقوم على تنويع مصادر الدخل، وتحفيز الإنتاج المحلي، والاستثمار الجاد في قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة. إن بناء اقتصاد مقاوم لا يقتصر على تجاوز الأزمة الراهنة، بل يمثل ضمانةً أساسيةً لحماية الإقليم اقتصادياً من أي ضغوط أو ابتزاز سياسي مستقبلي.

كما أن دعم ريادة الأعمال، وتمكين الشباب، والاستثمار في التعليم المهني والتقني، عوامل حاسمة لتحقيق قدر أكبر من الاكتفاء الذاتي، وتحويل الإقليم من سوق استهلاكية إلى مركز إنتاجي وتصديري.

 

رابعاً: المشروع القومي.. إعادة صياغة في ظل المتغيرات:

لم يكن المشروع القومي الكوردي مشروعاً انعزالياً، بل ظل ساعياً دوماً إلى ترسيخ الحقوق القومية ضمن إطار الدولة العراقية، مستنداً إلى مبادئ الفيدرالية والعدالة والتعددية. بيد أن التحديات الراهنة تستدعي مراجعة عميقة لهذا المشروع، وإعادة صياغته بما يتلاءم مع التحولات الجيوسياسية، ويؤسس لنموذج كوردي موحد، يقوم على التكامل الداخلي والتخطيط الاستراتيجي بعيد المدى.

لقد حان الوقت لتحويل مسار النضال من ردود الأفعال إلى تبني رؤية استراتيجية واضحة، ترتكز على بناء مؤسسات قوية وفاعلة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز الهوية القومية الجامعة التي تتجاوز الانتماءات الحزبية والحدود الإقليمية الضيقة.

 

خامساً: الوحدة.. الركيزة الأساسية لأي تحول ناجح:

يعد الانقسام الحزبي أحد أبرز التحديات التي تقوض أي مشروع قومي فعال، وقد استُغل هذا الانقسام مراراً من قبل المركز لتفكيك الموقف الكوردي الموحد. إن إصلاح البيت الداخلي لا ينبغي أن يبقى مجرد شعار، بل يجب أن يتحول إلى برنامج سياسي عملي يهدف إلى توحيد القرار السياسي، وإشراك جميع القوى الفاعلة في مشروع وطني شامل.

وبالتوازي، فإن تعزيز الوحدة الشعبية يتطلب خطاباً وطنياً موحداً، يعكس معاناة المواطن، ويعيد بناء الثقة بالمؤسسات، ويقرب الناس من مشروع الدولة. فمن المستحيل تحقيق استقلال اقتصادي حقيقي أو صمود سياسي دائم دون قاعدة شعبية راسخة تؤمن بالمشروع الوطني وتستعد لتحمل تبعاته.

 

الخاتمة:

رغم الألم الذي سببه الحصار الاقتصادي للإقليم، فإن دروس التاريخ تؤكد أن الأمم تُبنى وتتصلب عودها في أتون الأزمات. ومن رحم هذا الظلم، بإمكان الشعب الكوردي أن يثبت مجدداً جدارته بالكرامة والصبر والبناء، وأن إرادته لا تنكسر بالحصار بل تزداد صلابة. المشروع القومي الكوردي اليوم، بأمس الحاجة إلى إعادة تأسيس قائمة على روح التضحية، والتماسك الداخلي الرصين، واقتصاد مستقل قادر على الصمود، ليكون إقليم كوردستان نموذجاً يُحتذى في عموم المنطقة.