العراق : بين النفوذ الإقليمي والسياسات الطائفية.. الأزمة الحقيقية ومسارات الحل

العراق : بين النفوذ الإقليمي والسياسات الطائفية.. الأزمة الحقيقية ومسارات الحل
العراق : بين النفوذ الإقليمي والسياسات الطائفية.. الأزمة الحقيقية ومسارات الحل

يعيش العراق في عام 2025 حالة من التشابك السياسي والأمني الخطيرة التي لم تُعرف لها حلول جذرية حتى الآن، حيث يهيمن النفوذ الإقليمي على المشهد العراقي بشكل واضح، مضاعفاً بذلك أزمات البلاد ومعقداً بناء الدولة الوطنية المستقرة، التي تفقد استقلال قرارها وتتبدد في دوامات الصراعات الإقليمية. هذا التدخل، الذي تمارسه دول الجوار عبر وكلائها وسيطرتها على مفاصل أمنية وسياسية، يجعل حكومات بغداد أدواتً في خدمة مصالح دول إقليمية تغرق البلاد في أزمات متعددة على حساب وحدة وسيادتها.  

وفي ظل هذا الواقع، فرضت الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس 2025 عقوبات قوية على كيانات حكومية وعسكرية عراقية مرتبطة بشكل مباشر بدول إقليمية، شملت بنوكًا وشخصيات وأجهزة يُتهم بعضها بتمويل وتمكين النفوذ الإقليمي داخل العراق. جاءت هذه العقوبات كجزء من استراتيجية أمريكية للضغط على بغداد لوقف هذه التدخلات، لكنها أضافت عبئاً جديداً على شعب يعاني أصلاً ضعف الخدمات والأزمات الاقتصادية الحادة، مما يزيد هشاشة الدولة ويقوّض فرص الاستقرار والتنمية.  

هذه العقوبات تكشف فشل الحكومة العراقية في وضع مصلحة الوطن فوق مصالح طائفية وإقليمية ضيقة، إذ تستمر في تقسيم الثروات السياسية والاقتصادية على أساس المحاصصة المذهبية والطائفية، متجهة نحو جذب الأصوات الانتخابية بدلاً من تعزيز الوحدة الوطنية والتنمية الشاملة. فالانتخابات القادمة في العراق تعكس هذا الواقع المرير، وسط استقطاب طائفي وحزبي خاص في التعامل مع إقليم كوردستان. تُستخدم سياسات التهميش والتضييق الاقتصادي والسياسي كأدوات لجمع الأصوات الولائية على أساس المذهب والطائفة، ما يعطل أي أفق حقيقي للمصالحة الوطنية وشراكة مستدامة.  

هذا الواقع السياسي لا يخدم سوى تغذية التطرف وزيادة الحساسيات الطائفية والمذهبية، خاصة مع وجود ميليشيات مسلحة خارجة عن سلطة الدولة، وتداخلات دول إقليمية، منها النفوذ الإقليمي المباشر، التي تعرقل بناء قوة وطنية مستقلة قادرة على فرض القانون وحماية الأمن، مما يزيد من تعقيد المشهد الداخلي ويهدد مستقبل التعايش السلمي في العراق.  

اقتصادياً، لا يبتعد الوضع كثيراً عن الواقع السياسي، فالاعتماد شبه الكلي على النفط يجعل العراق عرضة لتقلبات السوق العالمية، بينما تعرقل النزاعات المحلية السياسات التنموية، ما يفاقم أوضاع فقر وهشاشة الخدمات. المواطن العراقي، وفي مقدمة ذلك أبناء إقليم كوردستان، يعيش تحت وطأة نقص فرص العمل المتزايد وتراجع الخدمات الصحية والتعليمية، مع تفاقم مشاعر الإحباط واليأس.  

ومع ذلك، تبرز كوردستان نموذجاً نسبيًا للاستقرار والتقدم داخل العراق. فقد تمكن الإقليم من بناء علاقات دبلوماسية واسعة ومتنوعة تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون، ما يمنحه دوراً مؤثراً وموثوقاً في المنطقة. كما اعتمد الإقليم رؤية اقتصادية لتخفيف الاعتماد على النفط، من خلال دعم قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة، وتحقيق مشاريع تنموية تخدم المواطن بشكل مباشر، مما أدى إلى تحسن في الخدمات والتعليم والبنية التحتية.  

أمنياً، نجح الإقليم في توفير بيئة أكثر استقرارًا نسبياً مقارنة ببقية العراق، من خلال منظومة أمنية متماسكة قادرة على التصدي للتهديدات الإرهابية، إلى جانب إرساء نموذج للتعايش السلمي بين مكونات الإقليم المتنوعة عرقيًا ودينيًا. الاعتماد على ثقافة الحوار ونبذ الطائفية عزز فرص السلام الأهلي، ما يجعل كوردستان نقطة استقرار مهمة وسط أزمات البلاد.  

لكن مستقبل العراق مرهون بإرادة سياسية حقيقية لإنهاء حالة التمزق والانقسام. عليه أن يعترف بأن استمرار المحاصصة الطائفية، والولاءات الحزبية، وإهمال الحلقات الوطنية القوية سيقود البلاد إلى المزيد من الانهيار، فيما يدفع الشعب أثماناً باهظة من فقر وعنف واحتقان.  

الحلول الجذرية تقتضي:  

- إنهاء التدخلات والنفوذ الخارجي، خصوصاً النفوذ الإقليمي، عبر بناء مؤسسات وطنية مستقلة تستند إلى سيادة حقيقية تجعل العراق سيد قراره.  
- إصلاح النظام السياسي بشكل كامل والتخلص من المحاصصة الطائفية، وبناء تعاون سياسي وطني على أسس العدالة والمساواة، بعيداً عن الولاءات الضيقة.  
- مكافحة الفساد على نحو صارم وعادل، من خلال تفعيل مؤسسات الرقابة والقضاء، ومحاكمة الفاسدين مهما علا شأنهم لاستعادة الثقة.  
- ضمان حقوق إقليم كوردستان دستورياً وسياسياً، مع إجراء حوار وطني حقيقي يؤدي إلى شراكة متوازنة داخل الدولة الاتحادية تحترم التنوع.  
- تنويع الاقتصاد والاهتمام بالتنمية في جميع المحافظات، مع توزيع عادل للثروة تضمن تحسين مستوى الحياة والخدمات لجميع العراقيين.  
- توفير انتخابات حرة ونزيهة بعيداً عن الاستقطاب الطائفي، مع ضمان حرية التعبير السياسي وحماية حقوق جميع التيارات.  
- تعزيز ثقافة الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية عبر حملات ثقافية وتعليمية تبرز التنوع قوة لا تهديداً.  

اليوم، يقف العراق على مفترق طرق حاسم بين استمرار الأزمة ودخول نفق مظلم أو الانطلاق نحو دولة حديثة تقف فيها مصلحة الشعب فوق كل اعتبار، وتحترم التنوع وتؤكد سيادة القانون والعدالة الاجتماعية.  

الشعب العراقي يستحق قيادة حكيمة ومحايدة، قادرة على فتح صفحة جديدة من الأمل، وبناء عراق موحد يحفظ الحقوق ويمنح الأمن والتنمية لكل مكوناته بكرامة وحريات كاملة.  

هذه هي اللحظة التي يُصنع فيها التاريخ، والمشهد السياسي القادم سيكون هو الحاسم في مسيرة العراق بعد سنوات من الاضطرابات والتحديات.