اتفاقية آذار، فرصة ومكسب تاريخي، لم تعرف بغداد قيمته

Kurd24

تمر اليوم الذكرى الثالثة والخمسين لاتفاقية الحادي عشر من اذاروالتي نصت على تحديد منطقة اقليم كوردستان كمنطقة للحكم الذاتي والبت في مصير كركوك وسنجار وخانقين بعد اربعة اعوام لحين اجراء تعداد سكاني يبين نسب المكونات القومية والدينية في هذه المناطق ، هذه الاتفاقية التي وقعت بين الزعيم الخالد مصطفى بارزاني، وحكومة البعث العراقية في عهد الرئيس الاسبق احمد حسن البكر، واشرف على التمهيد والاعداد لها وتوقيعها، صدام حسين والذي كان نائبا لرئيس الجمهورية اكسبت العراق في وقتها قوة معنوية كبيرة على اكثر من مستوى واكسبت صدام شخصيا دعاية اعلامية كبيرة  حيث كان يلقب نفسه بمهندس الحكم الذاتي، وللاسف فان صدام نفسه هو من تخلى عن وعوده وتحديدا فيما يتعلق بمصير المناطق التي مازالت تسمى في الدستور العراقي بـ(المناطق المتنازع عليها) مع انها ستبقى ضمن حدود الدولة العراقية، وتسبب هذا التصرف باهدار الفرصة الثمينة لهذه الاتفاقية.

اتت اتفاقية الحادي عشر من اذار لعام 1970 كنتاج ومكتسب مهم لثورة ايلول والتي انطلقت ضد نظام عبدالكريم قاسم في الحادي عشر من سبتمبر/ايلول لعام 1961 وعرفت بانها كانت اولى الثورات الشعبية والجماهيرية الكوردستانية وامتدت من زاخو الى خانقين وخرجت للمرة الاولى من حدود الانتشار الضيقة التي عرفت بها الثورات السابقة (مع انني ارى بان ثورتي بارزان الاولى والثانية حملتا ذات مباديء ايلول ويعود ذلك الى من قاد الثورتين وثورة ايلول)، واستطاعت ان تؤسس وللمرة الاولى ايضا شبكة من العلاقات الدبلوماسية امتدت بين الدول الاقليمية والعربية والعالم بل واثرت على قرارات لدول، حيث استطاع البارزاني وبرسالة بعث بها الى الرئيس الفرنسي الاسبق شارل ديغول في عام 1967 الى ايقاف صفقة لبيع سربين من طائرات الميراج للحكومة العراقية، مبينا بان هذه الاسلحة ستتسبب في قتل الالاف من النساء والاطفال في كوردستان مما ادى بديغول الى الغاء الصفقة.

لقد تسبب هذا التاثير القوي لهذه الثورة الى مراجعة الحكومة العراقية كافة حساباتها تجاه المسالة الكوردية والقبول بكل مايمكن ان تطرحه القيادة وان كان لاجل اضاعة الوقت فقط لحين استرجاع مايمكن استرجاعه من قبل الحكومة العراقية لتبدا باظهار وجهها الحقيقي من جديد ، وهذا ماحصل فعلا بعد اصدار قانون الحكم الذاتي في عام 1974 من جهة واحدة واشتعال الثورة من جديد وانتكاستها بفعل اتفاقية الجزائر في السادس من اذار لعام 1975 .

ومن الواضح بان بغداد لم تكن تريد تنفيذ هذه الاتفاقية كما جرى التوقيع عليها، وملامة هذا الموضوع لاتقع على عاتق رئيس او وزير او حكومة، بل كانت عقيدة راسخة لدى حزب البعث العراقي بان تبقى العلاقة بين بغداد والقيادة الكوردية علاقة القوي والضعيف والمستقوي والمستضعف والاقلية والاغلبية، ولعل محاولات المخابرات العراقية المستمرة والمستميتة ولاكثر من مرة لاغتيال البارزاني والشهيد ادريس بارزاني والرئيس مسعود بارزاني وبشتى الطرق شاهد ودليل حي على هذه العقدة والعقيدة لدى البعث، ولاينسى من يتابع التاريخ محاولة ناظم كزار الشهيرة لاغتيال البارزاني في مقره عن طريق رجال دين مفخخين بعد عام ونصف على توقيع الاتفاقية في مشهد كاد ان يقلب الوضع راسا على عقب لولا حكمة البارزاني واصراره على استمرار السلام.

وبمراجعة الاحداث بين فترة اتفاقيتي اذار والجزائر، يتضح لنا بان بغداد فقدت فرصة كبيرة وثمينة لاستقرار العراق والمنطقة ولتجنب حروب ودمار اعادت العراق قرونا الى الوراء، بل كان من الممكن ان تكون هذه الاتفاقية سببا في حل شامل وسلمي وكامل للمسالة الكوردية في العراق، لان الاتفاقية اوقفت حربا استمرت عشرة اعوام، وخسر العراق من خلالها الكثير من ارواح ومعدات عسكرية واموال كان من الممكن الاستفادة منها منها لاعمار العراق، كان بامكان الحكومة العراقية ان تفتح كل جسور العلاقات على اوسع الابواب للاختلاط بين كافة مكونات الشعب العراقي وتحديدا في الجانب الثقافي، وخصوصا بان البارزاني اصر على عدم تهميش بقية المكونات القومية كالتركمان والاشوريين والكلدان وعلى هذا الاساس تاسست العديد من الاحزاب السياسية والنوادي الثقافية والتجمعات التابعة لهذه المكونات واصبحت تمارس نشاطها بشكل رسمي وقانوني دون اية مضايقات، كما فتحت الباب ايضا امام المزيد من المثقفين والصحفيين من عرب واجانب لزيارة كوردستان والاطلاع على واقع وماهية هذه المنطقة ونقلت للعالم اجمع مدى حرص القيادة الكوردستانية على استمرار الاتفاقية وتنفيذها دون اي تسويف وتشويه.

لقد فضلت بغداد التنازل لدول الجوار على ان تتحاور مع قيادات من ابناء شعبها ظنا منها بانها ستنتصر، ومن يشك بهذا الكلام فليراجع الجزء الثالث من كتاب البارزاني والحركة التحررية الكوردية للرئيس مسعود بارزاني وليطلع على المحادثة التي جمعت بين الشهيد ادريس بارزاني وصدام والتي قال فيها حرفا : ان طالبتم بكركوك وخانقين وسنجار ساضطر الى التحالف مع ايران ضدكم، وهذا ماحصل فعلا، ولكن؟ ما الذي تحقق وماهي النتائج التي ترتتبت عن هذا التنازل؟

لم يستمر النظام الذي تنازل له صدام عن نصف شط العرب لاكثر من اربعة اعوام من توقيع الاتفاقية، والغيت الاتفاقية من قبل الحكومة العراقية ونشبت بين البلدين حرب شعواء استمرت لثمانية اعوام تسببت بقتل مليون انسان وتخريب الاقتصاد والبنية التحتية لبلدين وخلق المزيد من التوتر في المنطقة وانتعاش اسواق بيع السلاح وسماسرة الموت والحرب، ثم غزو الكويت واندلاع حرب الخليج الثانية وتدمير الجيش العراقي وفرض حصار استمر لاكثر من عقد على العراق، وكل ذلك من اجل ان لايتنازل نظام البعث الذي سقط بدوره بطريقة مهينة وغير متوقعة في التاسع من نيسان لعام 2003، فقط ليبين بانه هو المنتصر الذي يستطيع فرض كل مايريده دون ان يستوعب بانه ونظامه يقفان على اساس هش متوقع سقوطه باية لحظة.

ان ماحصل بعد اتفاقية الجزائر من عمليات ابادة جماعية في حلبجة وكرميان وباليسان وبادينان وكل شبر تعرض لسياسات البعث الاجرامية، يبين بان البعث كان يخطط اصلا ومنذ البداية لذلك، مستغلا اخلاق الفرسان التي تمتع بها ثوار كوردستان (ولا اقصد هنا الفرسان الذين كانوا ضمن حاشية صدام من الخونة المنبوذين)، ويبين ايضا بان صدام كان يخطط لهذه التصفيات على المدى البعيد بداية من كوردستان وصولا الى الجنوب ثم الى الكويت ليفتح لنفسه طريقا الى الخليج، فهو في نظر نفسه المنتصر الذي حمى البوابة الشرقية وحافظ على عروبة العراق وحمى وحدتها وعلى الجميع ان يكافئوه على هذه الخطوات.

ومع كل ماحصل، بقيت اتفاقية الحادي عشر من اذار اساسا للكثير من التعاملات مع الحكومة العراقية ووثيقة بينت احقية شعب كوردستان في ادارة مناطقه واحقية نيل حقوقه السياسية والقانونية والادارية، واثبتت للجميع بان شعار الديمقراطية للعراق والذي حملته ثورة ايلول هو ماتم تجسيده في نقاط هذه الاتفاقية ولولا ماحصل، لكان العراق ينافس ارقى بلدان العالم من حيث الديمقراطية وحقوق الانسان والاعمار والبناء والثقافة ولم نكن لنعد ونجمع اليوم نسب النازحين والمفقودين والشهداء والعاطلين ومن هم تحت خط الفقر في بلد هو الاغنى بثرواته الطبيعية والبشرية.

لم تقدر الحكومة العراقية وبكل اسف هذه الوثيقة وضربتها عرض الحائط وتجاوزت عليها ولم تعرها اي اهتمام، مع ان تطبيقها كما جاء في بنودها كان سيجنب العراق الكثير من الكوارث التي تعرض لها هذا البلد، ويبقى السؤال هنا : هل ستاخذ الحكومة الحالية والتي تعتبر فدرالية على الورق فقط ولها دستور متجاوز على اكثر من نصف مواده، العبرة من ضياع هذا الفرصة؟ ام ستضيف مزيدا من الكوارث لارشيف تاريخ الحكومات العراقية؟