رواية هروب نحو القمة.. ذاكرة الكوردي المتخمة بمآسيه

Kurd24

شيرين كيلو - كوردستان24

انتهيت للتو من قراءة رواية، ربما على كل كورديٍ أن يقرأها.. أينما كان.. وأياً كان الظرف الذي يعيشه، الرواية كفيلة بإعادتك إلى رشدك.. رواية قد تردع فاسداً عن فساده، وتعيد ضالاً إلى هداه.. وتخرج حزيناً من يأسه..  وتنفث فيك روح الصمود التي ربما تكون قد فقدتها في دروب الحياة.

رواية ستقرؤها بغصة، وتبتلع دمعك المنسكب من صميم قلبك الكوردي الغائر في الحزن، وأنت تغوص في أعماقها .. لكن ما أن تنتهي من قراءتها .. حتى تتنفس الصعداء  وتشكر السماء، وتستسخف الكثير من أحزانك الشخصية وهمومك التي ستبدو صغيرة جداً أمام هول ما رآه الهاربون نحو القمة.

دعوني أسمّيها الرواية الصفعة، صفعة اليقظة، التي على كل كوردي أن يتلقاها بين حين وآخر، حتى لا يحيد عن قضيته، وألا يشغله شيء عنها.

رواية هروب نحو القمة للكاتب والإعلامي أحمد الزاويتي.. توثّق الهجرة المليونية للشعب الكوردي جنوب كوردستان، في تسعينيات القرن الماضي،  يسردها الراوي من ذاكرة بطل الرواية أوميد، وهو يسترجع تلك الذكريات بعد عودته إلى مدينته دهوك عقب مرور (26) عامًا على تلك الواقعة المؤلمة.

يصف الزاويتي للقارئ باللغة العربية، من خلال الرواية طبيعة وتاريخ وثقافة شعب كوردستان، بإسهاب، ويمر على العديد من مآسيه وأحزانه، وأبطاله، من خلال الهجرة المليونية التي اضطر لها كورد جنوب كوردستان طلباً للنجاة بأطفالهم من الموت على يد النظام العراقي السابق، خاصةً عقب ما حدث من مجازر في حلبجة والأنفال، حيث فقدوا الثقة بأي رحمة ترتجى للرأفة بأرواحهم.

لم يكن ذلك منذ زمن بعيد، إنها ثلاثة عقود وبضع سنوات، بإمكاني تذكُّر بعض التفاصيل، أتذكر أنني كنت في المرحلة الابتدائية تحديداً في السنوات الأولى منها لا أتذكر بالتحديد، لكن ما أتذكره إنني كنت في عمر يسمح لي بفهم القليل مما يدور حولي من الأحداث بعقل طفلة في السنوات الثماني الأولى من عمرها.

دخل والدي غرفة المعيشة التي كنا جالسين فيها نتابع نشرة الأخبار على القناة السورية الأولى حيث لم يكن هناك غيرها هي وقناة سورية أخرى ناطقة بالإنكليزية وربما قناتان عراقيتان كنا نتنقل بينها في المشاهدة.

كنا نتابع نشرة الأخبار وكانت العائلة كلها في حالة حزن وبكاء، أختاي اليافعتان كانتا تبكيان سراً أما عمتي وأمي فكانتا تنهالان بالضرب على ركبتيهما بين حين وآخر وتنهالان بالدعاء على الطاغية صدام، أو تتضرعان بالدعاء حيناً آخر ليغيث الله أخوتنا الكورد جنوب كوردستان.

كنت خائفة وأشعر أن حدثاً جللاً يحدث مع أناس هم أقرباء لنا أو يهمّون عائلتنا بطريقة أو بأخرى لكن لم أفهم الموضوع كاملاً، الأمر أخذ لدي بعداً أكبر حين وصل أبي إلى المنزل، وقام بإطفاء الجهاز الخشبي الكبير، طالباً من النساء عدم تشغيله مرة أخرى معلناً حالة الحداد في المنزل والتي دامت نحو ثلاثة أسابيع، لا أتذكر تماماً كيف تم كسرها، حيث كان من طقوس الحداد غرب كوردستان  إطفاء التلفاز وتغطيته بقطعة قماشية خيطت من أجله في حالات العزاء عند وفاة عزيز، ولم يكن يسمح بتشغيله أبداً، كونه كان يجسد حينها نوعاً من بث الفرح عبر الأغاني وما إلى ذلك من موسيقا ومشاهد.

لم تكن العراق وسوريا حينها على وفاق، فكانت القناة السورية الأولى تعرض تفاصيل ما يفعله الطاغية صدام وحاشيته، وخاصةً جرائمه النكراء بحق الكورد، أتذكر جيداً المشهد الذي كان يعرض على التلفاز، قبل أن يهرع والدي إلى إطفائه، كانت حشود بشرية مهولة، ترتدي الزي الكوردي، تصعد الجبل، في صراع مع التعب، ضمن رحلة سميت بالهجرة المليونية للكورد، كان قلبي يعتصر ألماً أمام المشهد غير المفهوم بالنسبة لي، كان صدام يمثل في ذهني الوحش الشرير الذي كنت أشاهده في أفلام الرسوم المتحركة أو تحكي عنه الأمهات في القصص الخيالية قبل النوم.

من أكثر المشاهد التي بقيت عالقة في ذهني مشهد لثلاثة أطفال تحت قطعة من النايلون يحاولون جعلها خيمة على مقاس أجسادهم فقط لتحميهم من برد الثلج في تلك الطبيعة الجبلية الباردة، تألمت من أجلهم كثيراً، وكنت أتساءل في نفسي عن السبب الذي يجعلهم في مرمى ظلم يلاحقهم على أرض هي أرضهم.

الرواية التي أسميتها الصفعة، سأعود وأسميها الآن بالرواية الروح، وصلتني هذه الرواية في الربيع، آذار 2024 تحديداً، تضمنت الكثير من الأحداث التي صادفت ذكراها ما كنت أقرؤه في الرواية مراتٍ عدة، كنت أشعر بروح الرواية تحاول أن تقول لي شيئاً لشدة العبقرية التي كتبت بها، تشعر وأنك تعيش الحدث مع أبطال الرواية، حيث تزامنت قراءتي عن الانتفاضة في ذكرى الانتفاضة، وعن حلبجة في ذكرى حلبجة، وعن البارزاني الخالد في ذكرى ميلاده، إلى جانب الأمطار التي داهمت دهوك بالتزامن مع الأمطار التي كانت تطفئ نيران الهاربين، حيث انتهيت منها قرب نوروز رأس السنة الكوردية، ورددنا كلنا يومها أي رقيب مع أوميد، تحت علم كوردستان.

شعرت وأنا أقرأ الرواية، أنني أعيشها، كنت كلما مات طفل في برد الجبل أتفقد أنفاس طفلي النائم في فراشه الوثير وأقبل وجهه الدافئ وخديه النضرين، كان المطر ينهمر في الخارج يغرق شوارع دهوك وزاخو، فتسافر روحي نحو الجبل الذي احتضن جثة سرهلدان طفل "أوميد" بطل الرواية الذي مات برداً في الأسبوع الرابع من عمره بعد أن بلل المطر قماطه، كانت الثلوج التي أقرأ عنها في توقعات الطقس توقظ في قلبي الخوف الذي اشتعل في قلب أوميد على ابنته وزوجته، وهو يخوض في الثلج ملتمساً الخلاص، وما أهمية خلاصه بعد أن تركهم خلفه قبرين باردين، ربما تكمن الأهمية في الوصول إلى القمة.

مازال الكورد يخوضون، رحلة الهروب، مازالت وحوش الغابات وأسماك البحار، تقتات على لحمنا في طرقات اللجوء نحو حياة أكثر أماناً، تغيّر الزمان والمكان، لكن الهارب بأولاده من الموت والجوع والفقر والسجون والعسكرة والفساد، هو الكوردي نفسه، إلا أنه هذه المرة وعلى الجانب الآخر ثمة قمم أخرى يصعدها الكورد، قمة داڤوس قمة ميونخ بل، وقمم يصنعونها وهم القمم، مازال الكوردي العنيد يحمل لغته.. دبكاته وموسيقاه على ظهره يجول بها أصقاع الأرض.

كنت أقرأ الصفحات الأولى من الرواية حين زودني الزاويتي بمقالٍ له، عن الرواية، والذي حرق الكثير من الأحداث التي كنت أود لو أني وصلتها وأنا أقرأ الرواية، لكنها جعلت سير الأحداث وتسلسلها أكثر وضوحاً أمامي، وأنا أقرأ روايةً أعلم سابقاً أهم أحداثها.

ما أن انتهيت من قراءة الرواية، التي غسلت روحي مما علق منها في رحلة الحياة التي كنت أظنها صعبة، قبل قراءتي للرواية الصفعة، لتعيد إلي تاريخاً من الصمود، زوّدني الزاويتي برابط فيلمه الأم في طريق الهروب، وكان مكملاً للرواية، وأعتقد أن كل من يقرأ تلك الرواية عليه أن يقرأ المقال الذي ذكرته آنفاً، ويشاهد الفيلم عقب قراءتها، هكذا تكتمل الفكرة في مخيلتك، وتصلك رسالة الرواية بشكل أوضح.

قبل مشاهدتي للفيلم عتبت على الروائي لعدم ذكره أحداث شنكال وعفرين وسري كانيه، وهجرات الكورد، الكورد الذين لا أصدقاء لهم سوى الجبال، الجبال التي تخونهم أحياناً، حيث وجد مئات الآلاف منهم في جنوب كوردستان الجريحة ملاذاً آمناً، ليس لهم فقط بل للكثيرين ممّن يعيشون مآسي شبيهة بمأساتهم. فيلم "الأم في طريق الهروب" تحدث عن كل تلك الأمهات، ليعوضهن عن ذكرهم الذي غاب في الرواية القمة.

لا أعلم كيف كان بإمكانه احتواء كل هذا الألم 26 سنة حتى أفرغه على الورق، لكن أعلم جيداً كقارئة أنه تمكّن من تقمُّص شخصيات روايته مجسداً الحالية الجسدية والنفسية التي عاشها هؤلاء خلال هروبهم نحو القمة، فسرد وجع كل طفل حتى الرضيع الذي قد لا يشعر بنفسه، شعر به الرواي، كل كهل أو شاب أو امرأة في رحلة الصعود تلك، دخل الراوي تفاصيلها ووضعها أمامنا على الورق.

 كانت لي على المستوى الشخصي رحلة هروبي الخاصة، من ملاحقة قوات الأمن السورية لي بعد قراءتي قصيدة على سطح منزل في عامودا، خلال الأشهر الأولى من الثورة السورية قبل أن تخرج عن مسارها، حيث قام شبان المدينة بإحراق علم البعث، اضطررت بعدها لسلك طريق "التهريب" نحو قمة هي إقليم كوردستان، حين اتصل عنصر أمني بخالي في عامودا، وقال أبعدوا ابنتكم لأنها قاب قوسين من الاعتقال، جلست عمتي أمام باب المنزل وبيدها عصا غليظة، في انتظار سيارة الأمن، وقالت لي أختي بلهجة شديدة " ما أن يصل عناصر الأمن السوري إلى الباب اصعدي الى سطح الدار، وارمي بنفسك على سطح الجيران إن لم يكن مصيرك الموت، عليك بعدم العودة ومحاولة الوصول الى كوردستان بأي شكل، قطعت الحدود البرية من غرب كوردستان إلى جنوبها سيراً على الأقدام وسط حقول القمح وأنابيب نقل النفط، 6 ساعات، كدت استسلم خلالها عدة مرات إلى أن ساعدني شابان أمسكاني من كتفي حتى قطعنا آخر مراحل الهرولة، وما أن وصلنا النقطة الحدودية حتى اختفيا تماماً، وددت أن أشكرهم لكن وجدت حقائبي دونهما على الأرض ربما كانا ملاكين، قاما بمساعدتي ثم عادا طائرَيْن للسماء، بتنا ليلتنا في منزل مختار القرية، وفي اليوم التالي توجهت إلى أربيل "هولير" شقيقة القلب وسلام الروح، في الطريق كانت السيطرات الكوردية تحمل علم كوردستان، كان قلبي يرفرف مع كل علم، على سطح مدرسة أو مؤسسة، قوات الأسايش في السيطرات "حواجز أمنية"، كانوا كورداً، يا الله لم أعتد على ذلك، كنا نخاف من الزي العسكري، أما الآن فأودُّ تقبيل بنادقهم، وأفرد أمامهم حقائبي بكل أريحية وأنا ابتسم، كنت أنا أوميد وقتها حين ردّد نشيد «أي رقيب» في ساحة البرلمان.

«هروب إلى القمة» تتحدث عنا كلنا، عن أمهاتنا، عن حاضرنا وتاريخنا وأيامنا، إنها رواية الكوردي الشقي العنيد.

فصول كثيرة في الرواية لفتتني فنيتها في التقديم، سأتخذ لحظة استماع أوميد لنشرات الأخبار العالمية وهي تتناول رحلتهم تلك، عبر المذياع، مثالاً، لقد مررنا كلنا ككورد بتلك اللحظات، ولم تكن المرة الأولى التي تتصدر فيه أوجاعنا التي لا آخر لها عناوين الأخبار عبر المحطات الإعلامية العالمية.

فصل آخر هو لحظة أضاع آزاد وأوميد بعضهما البعض، على الحدود التركية، حيث تم توظيف حدث عام لتقديم تفصيل صغير في الحياة العامة لكنه كبير إنسانياً، على عكس ما يجري عادةً حيث يتم تخصيص حدث صغير لتناول قضية كبيرة، كتوظيف قصة حب وسط الحرب، .. وجودك مع شخص مقرب منك قد يسهل عليك أمراً جللاً، ويقدم المواساة والمؤازرة، الوحدة تجعل من كل شيء صعباً.

الزاويتي الذي مازال محتفظا بنظرة التحدي التي ظهر بها خلال بداية فيلم الأم في طريق الهروب، في مقطع صور له خلال الهجرة المليونية وهو يعد بكتابة مشاهداته، ووفى بوعده، ما يزال الروائي الثوري الذي يسعى لتوثيق أوجاع بني قومه للعالم، وما يزال المراسل الذي كرّس عمره يلاحق القصة الخبرية لعادات شعبه وتقاليده وثقافته، بين يديه الآن رواية أخرى تسرد وجعنا للعالم، صفعةً أخرى تعيد إلينا روحنا الصامدة التي نوشك أن نفقدها أحياناً.