البارتي.. الواقعية أخلاق الفرسان
تاسس الحزب الديمقراطي الكوردستاني في السادس عشر من اب/اغسطس لعام 1946 بقيادة ورئاسة الزعيم الخالد مصطفى بارزاني، وتصادف تاريخ تاسيس الحزب مع يوم ميلاد الرئيس مسعود بارزاني، وجاء تاسيس البارتي في ظروف قاسية عصيبة عاش فيها شعب كوردستان بعد خيبة الامل التي تعرض لها على اثر اسقاط جمهورية كوردستان في مهاباد بمؤامرة دولية كان الهدف منها القضاء هو على تطلعات هذا الشعب واحباط اخر المحاولات لاستقلاله بعد اتفاقية لوزان والتي عقدت في الرابع والعشرين من تموز/يوليو 1923 والتي رسمت حدود المنطقة ووزعت الاراضي التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية.
الواقعية في العمل السياسي
ومنذ بداية وجود الديمقراطي، سارعت السلطات العراقية في العهد الملكي الى منع هذا الحزب بقوة السلاح وتعرض اعضاؤه وقيادييه الى الاعتقال والاغتيال وكان التهديد لكل من ينتمي اليه في اغلب مدن و(الوية – محافظات) العراق وكوردستان هو سيد الموقف وخصوصا في بغداد حيث كانت العوائل الكوردية -الفيلية هي الاكثر استهدافا لولائهم الشديد للحزب الديمقراطي ولنهج البارزاني وللقضية القومية والوطنية لشعب كوردستان.
اتسمت سياسة الديمقراطي دوما بالواقعية والتوازن بين ممكنات السياسة والمباديء الانسانية التي قامت على اساس نهج الشيخ الشهيد عبدالسلام بارزاني ومولانا الشيخ احمد حيث كان البارزاني يؤكد دوما على ضرورة عدم التخلي عن الاطر الانسانية وهي الابقى والاكثر استمرارية وتخليدا.
واقعية النهج السياسي للبارتي ظهرت لاول مرة في المؤتمر الكوردي الذي عقد في عام 1948 في باكو عاصمة اذربيجان، حيث اكد البارزاني في كلمة القاها في ذلك المؤتمر على ان النضال الكوردي وبعد مؤامرة اسقاط جمهورية كوردستان في مهاباد يجب ان يستمر على اسس فرضها الواقع الجديد، والافضل ان يكون النضال القومي والوطني لهذا الشعب في اطار الدولة التي الحق بها كل جزء من كوردستان بمراعاة خصوصية هذا الجزء وعدم وجود تدخلات سلبية واستمرار التنسيق والتعاون القومي والوطني بتوحيد المواقف العامة مهما كانت الاختلافات في الرؤى ووجهات النظر.
التعايش السلمي
الديمقراطي تاسس تحت مسمى الحزب الديمقراطي الكوردي، ولان هذا الحزب ضم في صفوفه كوادر من غير الكورد من التركمان والاشوريين والكلدان وحتى العرب، بادر البارزاني الى تغيير اسم الحزب الى الحزب الديمقراطي الكوردستاني وتمت المصادقة على هذا التغيير في المؤتمر الثالث والذي عقد في مدينة كركوك في السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير 1953 ، هذه المبادرة كانت سببا في توسع وزيادة شعبية البارتي وانتشار مبادئه بسرعة كبيرة وانضمام الالاف من ابناء المكونات القومية والدينية الى صفوفه. وفي هذا المجال سعى الديمقراطي الى توحيد صفوف الشعب بكل مكوناته، ولاينسى تاريخ البارتي بيشمركة وشهداء حاربوا في صفوفه واستشهدوا ومنهم هرمز ملك جكو وفرنسو حريري ونمر كجو والملازم خضر والذي توفي قبل ايام وكان احد قياديي البيشمركة في ثورة ايلول على الرغم من انتمائه للحزب الشيوعي العراقي.
قيادة ثورة ايلول
وبعد اسقاط النظام الملكي في الرابع عشر من تموز/يوليو 1958 عاد البارزاني الخالد ورفاقه من الاتحاد السوفييتي السابق في محاولة ومبادرة اخرى في اطار المعطيات الجديدة التي حلت على العراق لفتح صفحة جديدة مع الحكومة العراقية، ليلتقي بزعيم الثورة عبدالكريم قاسم واقطاب الحكم الجديد ، البارزاني بادر الى الصلح مع قاسم على الرغم من كونه احد المكرمين من الوصي عبد الاله مكافاة له ولزملائه على محاربة ثورة بارزان الثانية في اربعينيات القرن الماضي، البارزاني لم يكترث لهذا الموضوع وآثر على ان تكون المصلحة العامة هي المعيار الاساسي في التعامل مع الحكومة الجديدة. الا ان قاسم وكعادة اي حاكم يتربع على عرش العراق اصابته اثار جنون العظمة وراى في نفسه الزعيم الذي لايمكن ان ينافسه احد على هذه المكانة، هو كان يخاف من مقام ومكانة البارزاني وثوار بارزان لذلك كانت مبادرته العكسية باعلان الحرب على كوردستان فكان قرار القيادة السياسية في تلك الفترة هو الاعلان عن قيام ثورة ايلول في الحادي عشر من ايلول/سبتمبر 1961 والتي شملت كل مناطق كوردستان من زاخو الى خانقين كاول ثورة كوردستانية شاملة شكلت تهديدا على المستقوين بالسلطة في بغداد، ولتكون نتيجتها التوقيع على اتفاقية الحادي عشر من اذار لعام 1970 واعلان المصالحة العامة مع الحكومة العراقية والمبادرة مرة اخرى لفتح صفحة جديدة (وسيكون لهذا الحدث حديث اخر في وقته).
التعامل مع المؤامرات الداخلية
في ستينيات القرن الماضي واثناء ثورة ايلول تامرت بعض القيادات التابعة للديمقراطي على الثورة وانحازت تارة لنظام شاه ايران محمد رضا بهلوي وتارة لنظام الحرس القومي في زمن العارفين ولنظام البعث قبل توقيع اتفاقية الحادي عشر من اذار مدعومة بالاقطاعيين اصحاب النفوذ والذين شكلوا نقطة استقواء للحكومة المركزية على الثورة والبارزاني، وفي كل تقارب او مبادرة للاتفاق بين قيادة الثورة والحكومة العراقية كانت هذه الاطراف المتامرة تتسارع لطلب العفو والسماح من البارزاني وقيادة البارتي ولم يكن من البارزاني الا ان يوافق على اعادتهم الى صفوف الحزب دون اصدار احكام تعسفية على غرار ماكان موجودا في مباديء الاحزاب اليسارية والقومية بالاعدام او الاقصاء او النفي او فرض الاقامة الجبرية. ومع ان هذا الامر كان سببا في استغلال طيبة البارزاني وانسيانيته، الا انها شكلت تعريفا مهما لانسانية البارتي وللبارزاني شخصيا.
مابعد نكسة ايلول
وفي عام 1968 جاءت حكومة البعث لتفرض واقعا قوميا عروبيا متشبهة بذلك بطريقة حكم الرئيس المصري الاسبق جمال عبدالناصر واسست لنظام الحزب الواحد وتنصلت عن جميع النقاط التي اتفقت عليها مع القيادة السياسية في كوردستان وتنازلت عن نصف شعب العرب لايران شرط ايقاف الدعم عن ثورة ايلول، وهنا كان القرار الصعب والقاسي للبارزاني بايقاف الثورة مؤقتا وتشكيل القيادة المؤقتة للحزب والتخطيط مرة اخرى للبدء بثورة جديدة فاجأت الحكومة العراقية والتي قالت بعد نكسة الثورة وعلى لسان رئيس النظام آنذاك احمد حسن البكر بان (الجيب العميل انتهى). الديمقراطي تعامل بكل موضوعية مع هذه المستجدات بمراجعة عامة مليئة بالانتقادات لبعض السياسات المتبعة ولتشخيص مواضع الخلل وايجاد الحلول لها وصولا لتهيئة الاجواء لانطلاق ثورة كولان في ايار/مايس 1976.
المصالحة الشاملة
وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي بادر الشهيد ادريس بارزاني الى صلح كوردي شامل وهذا ماحصل فعلا اثناء انعقاد مؤتمر نصرة الشعب العراقي في طهران والتوقيع على ميثاق الجبهة الكوردستانية وانهاء الخلافات مع الاتحاد الوطني الكوردستاني لتتاسس الجبهة الكوردستانية بقيادة الرئيس مسعود بارزاني في عام 1988 وتقود انتفاضة شعب كوردستان في عام 1991. هذه المبادرة لم تكن الاولى للديمقراطي حيث تنازل البارتي وبعد انتخابات برلمان كوردستان في عام 1992 عن احدى مقاعده البرلمانية لتتساوى نسبة المقاعد مع الاتحاد ولتدارك خلافات من الممكن ان تتسبب بضرر التجربة الديمقراطية في الاقليم، وفي عام 2002 وقبل اسقاط النظام سارع البارتي ايضا الى توحيد المواقف مع الاتحاد لمواجهة اي احتمال بالتغيير في العراق ليتوحد برلمان كوردستان في الرابع من تشرين الاول/اكتوبر من ذات العام وتبقى الجبهة السياسية في كوردستان موحدة بتوقيع الاتفاقية الاستراتيجية بين الجانبين في عام 2005 وخوض اكثر من عملية انتخابية بقائمة موحدة مع الاتحاد الوطني الكوردستاني.
اخلاق الفرسان
وكانت الفترة مابين اعوام 2014- 2017حافلة بالاحداث، بداية من تنفيذ مخطط قطع حصة الاقليم من الموازنة الاتحادية، واحتلال داعش لاكثر من محافظة عراقية وتهديدها المباشر لاقليم كوردستان والحرب التي قادتها قوات البيشمركة ضد هذا التنظيم الارهابي وصولا الى استفتاء استقلال كوردستان وخيانة السادس عشر من تشرين الاول/اكتوبر 2017 والاحداث التي تلتها. وفي تلك الفترة وبرغم كل الضغوط الداخلية والخارجية، لم تغلق القيادة السياسية للديمقراطي الابواب امام الحوار وسارع البارتي دوما الى حلول تبعد الشعب العراقي وشعب كوردستان عن اية مشاكل من الممكن ان تتحول الى صراعات عرقية وطائفية، وبهذه السياسة احتضن الاقليم اكثر من مليوني نازح عراقي ومايقارب الربع مليون لاجيء من السوريين من الكورد وغير الكورد .
وعلى الرغم من اكثر من قصف صاروخي طال الاقليم من هذه الميليشيات لم تكن ردة الفعل تجاه هذه التصرفات على ذات وزن الفعل، لتاتي الزيارة الاخيرة للرئيس في الثالث والرابع من تموز الماضي وتثبت مقولة ان ساعة من الحوار افضل من ساعات من حروب وخسارات لن تتعوض، ومع ذلك اثبتت الميليشيات بعد ماحصل من انقلاب على البارتي في محافظتي نينوى وكركوك اين تكمن الاخلاق ومن الذي يعد ويخلف.
لقد اثبت الديمقراطي بانه كان ينظر دوما بعين ملؤها الواقعية للسياسة العامة العراقية فقد حملت ثورته شعار الديمقراطية للعراق اولا، ولم يغلق ابوابه حتى امام من كان يبادر الى ايقاد نار الفتنة مع الكورد في سياسة عقلانية تعري حقيقة مدعي السياسة، كما بينت طريقة التعامل مع اسرى الجيش العراقي في ثورة ايلول والمواجهات مع جيش البعث الصدامي والتعامل مع اسرى ارهابيي داعش والالتزام بالكلمة مع الخصوم السياسيين، بان اخلاق الفرسان كانت دوما الشعار الذي لايمكن للبارتي التخلي عنه مهما كانت الظروف والمغريات.