عربية في أربيل

Kurd24

كانت نافذة غرفتي في دمشق تطل على حارتنا بأكملها وكنت في صغري أنتظر بفارغ الصبر يوم الواحد والعشرين من آذار من كل عام كي أراهم يرتدون أزياءهم الجميلة بألوانها الزاهية وكأن الربيع اندلق دفعة واحدة في شوارع حارتنا.

لكن فرحتي بهذا المشهد الساحر لم تكن تطول كثيرا لأن جيراننا الكورد خلال ساعات الصباح الأولى كانوا يسافرون جميعا إلى الشمال السوري (الحسكة والقامشلي) فيتحول مهرجان حارتنا إلى صمت رهيب، وتفقد الحارة بهجتها التي غمرتها قبل ساعات

كنت أسأل أمي "لماذا ليس لدينا عيد مثلهم؟ لماذا لا نلبس مثلهم؟ ولا نذهب معهم؟ وإلى أين يذهبون؟

فتقول لي هم كورد وهذا عيدهم ونحن عرب ولدينا عيد الأم اليوم.

رغم أن والدتي كانت أول المهنئين لهم في عيدهم إلا أنها لم تكن تسمح لي بالذهاب معهم لأن القامشلي بعيدة جدا حسب قولها

كنت أتأمل حارتنا بعد أن يسودها الصمت، لم أعد أسمع عزف البزق الجميل ولا جلبة الأطفال وضحكاتهم، لا فساتين زاهية الألوان، ولا شيء سوى السكون، كأن حارتنا قد فقدت الحياة فجأة.

حتى صديقاتي الكورد يذهبن إلى عيدهن ويتركنني أتأمل من النافذة وأرقب عودتهن.

هذا العيد الذي شغل حيزا من تفكيري وأنا طفلة "ترى ماذا يفعلون في العيد؟، أين يذهبون؟

كانت أمي تقول إنهم يذهبون إلى الجبال ويوقدون النار.

يا له من أمر مثير للاهتمام، كنت أتمنى لو نفعل مثلهم نذهب للجبال ونوقد النار.

إنها رحلة مثيرة حقا

حلمتُ طويلاً أن يأتي يوم وأتمكن من حضور عيد النوروز، ولطالما سألت أمي عن معنى كلمة (عيد النوروز) ولطالما تهربت من الإجابة لأنها تستحي أن تقول لي إنها لا تعرف.

مرت الأيام وتوالت السنوات وحدث ما لم أكن أتوقع

لم يكن ببالي أن الحرب في وطني سوف تتسبب بتحقيق أمنية الطفولة، وهي أن أحضر عيد النوروز

بعد أربعة وعشرين عاما اضطررت لمغادرة وطني سورية بسبب الوضع الاقتصادي الذي خلفته الحرب، وكانت أربيل هي الدولة التي فتحت للسوري أبوابها بغير قيود

مرت في رأسي مخاوف كثيرة وأنا أحزم حقائبي " كيف سأتفاهم معهم وأنا لا أفهم لغتهم، كيف سيتعاملون معي وأنا عربية، كيف سأعيش بينهم وأنا امرأة بمفردي؟

أسئلة ومخاوف كثيرة كانت تتبدد كلها عندما أتذكر أنني ربما أستطيع أن أحضر عيد النوروز.

ولحسن الحظ أنني قدمت إلى أربيل قبل عيد النوروز بأسابيع قليلة

فوجئت بهذه المدينة الجميلة التي لم أكن أعرفها من قبل، ولمت نفسي لجهلي بالتاريخ،

أناس طيبون جدا، يتمتعون بأخلاق عالية جعلتني شغوفة بهم، فرحت أقرأ عنهم أكثر فأكثر

منذ وصولي إلى أربيل لم أشعر مطلقا أنني امرأة تعيش بمفردها في بلد غريب وهي في ريعان شبابها، ولم أشعر بالخوف يوما، لأنني رأيت عكس ما كنت أتخوف منه،

وكان أول ما لفتني في شوارع أربيل أن الشاب الكوردي لا يتحرش بصبية تمر في الشارع على الإطلاق، ولا يلحق بها ليقول شيئا من الغزل، فهذا يعتبر عيب كبير.

في أربيل كنت أتجول بكل ارتياح حتى وإن كان الوقت متأخرا بعض الشيء.

هذا الأمان ذكرني بسورية ما قبل الحرب.

وللمرأة احترام خاص عند الكورد، فالنساء هنا أميرات يتربعن على عرش قلوب الرجال، لهن الحرية المطلقة في كل شيء وكذلك لهن الاحترام والدلال الذي يسبغه الإسلام على عادات وتقاليد الكورد

لقد جمعت المرأة في كوردستان العراق بين حرية الغرب واهتمام ودلال وتعظيم الشرق، إنه مزيج رائع.

خلال تجوالي شاهدت في المقاهي لوحة مكررة باستمرار في أكثر من مكان وعندما سألت عنها قيل لي إنها مستوحاة من رواية مم وزين للأديب أحمدي خاني

يا إلهي رواية؟! كيف لم أسمع عنها وأنا العاشقة للأدب

دفعتني هذه اللوحة إلى قراءة مم وزين، بحثت عن نسخة عربية فلم أجد في البداية، ثم عثرت على نسخة الكترونية ترجمها إلى العربية الدكتور العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، إنها قصة عشق ساحرة تستحق أن يخلدها التاريخ تشبه قصة قيس وليلى في الأدب العربي وكذلك عنترة وعبلة.

رواية مم وزين حملتني لأقرأ أيضا رواية خسرو وشيرين والمعروفة ب فرهاد وشيرين.

يا إلهي كيف غفلت عن هذا الأدب الرفيع

تزامنت قراءتي لرواية ممو زين التي تبدأ أحداثها بعيد النوروز مع اقتراب هذا العيد في أربيل ما أعاد لذاكرتي حلم الطفولة

الناس هنا كلهم يتهيئون للعيد، بدأت الأقمشة الملونة تملأ الأسواق، وأفواج من الناس تأتي وتروح

قلت في نفسي: هذه المرة لن يمنعني أحد من تحقيق أمنيتي القديمة، نزلت إلى السوق واشتريت فستانا مزركشا جميلا، وعرضته على صديقتي الكردية فأخذتني إلى دارها وأهدتني فستانين أكثر جمالاً مما اشتريت، يبدو أنني لا أجيد انتقاء الزي الكوردي كما يجب.

هذا الموقف وغيره الكثير دفعني لأن أنجز تقريرا مصورا عن عاداتهم وتقاليدهم

فالشاب الكوردي لا يرتدي سروالا قصيرا أبدا في الشارع، حيث يعتبر ذلك عيباً.

كما أن الكورد في أربيل لا يجلسون على الشرفات وهذا أمر أثار اهتمامي حيث أن الشرفات إن وجدت فإنها نادرا ما تستعمل إلا (لنشر الغسيل)

بالإضافة إلى أن الكوردي لا يقبل أن تشعل له سيجارته بيدك، فإذا جربت ذلك فإنه سيرفض ويأخذ منك الولاعة ليشعل سيجارته بنفسه مربتا على يدك كدلالة على الشكر، فهو يعتبر ذلك عيبا ومدعاة للغرور والتكبر.

لم أعاني من مسألة اختلاف اللغة فغالبية الكورد في أربيل يعرفون العربية، كما أن المنطقة لا تخلو من العرب إما سائحين أو عاملين فيها

هنا لا تشعر أنك غريب، حيث يعامل الجميع معاملة واحدة، بل إن للسوريين محبة خاصة عندهم.

ها قد اقترب العيد وتحولت قلعة أربيل إلى مهرجان مفعم بالصخب والألوان، إنه يوم الجمعة، مازال الكورد في أربيل يحافظون على صلاة الجمعة، يتركون بضاعتهم على حالها، يغطونها بقطعة قماش ويذهبون للصلاة.

فمن النادر جداً أن تحدث سرقة هنا، حتى إذا أضعت نقودك أو جوالك أو أي شيء آخر فإن أشياءك حتما ستعود إليك، لأنهم لا يأخذون اللقيا، بل يبحثون عن صاحبها حتى يجدوه ويعيدوها إليه.

انتابني للحظة شعور بالخوف على هذه البلاد فقد ذكرتني كثيرا بسورية ما قبل الحرب بأمانها، بعادات أهلها، بخيرها الكثير، خوف مصدره أن تغدو مطمعاً للأعداء كما حدث في وطني.

هنا تجد أحيانا من يخجل أن يصعد مع امرأة في المصعد

كنت مرة أنتظر المصعد في الطابق الثاني كي أصعد للأعلى، فتح الباب فإذا بشاب في المصعد عندما رآني خرج من المصعد وقال تفضلي ثم استقل الأدراج صاعدا إلى الأعلى.

الأمر الذي ذكّرني بمدينة السليمانية التي زرتها بعد أيام من قدومي إلى أربيل

حيث لاحظت فيها أن الرجال لا يجلسون قرب النساء في وسائل النقل ولو اضطرهم ذلك للوقوف طول الطريق، فإذا صعد غريب إلى الحافلة ووجد مقعدا فارغاً قرب امرأة وجلس فيه غير عارف بالعادات والتقاليد، فإن نظرات الجميع تتعلق به طول الطريق حيث يشعر أنه قد ارتكب ذنباً، كما أن النساء غالبا تدفع أجرة مقعدين وتترك المقعد قربها خاليا.

السليمانية أيضا مدينة جميلة ساحرة، طبيعتها تخطف الأنظار، إلا أنهم لا يعرفون العربية كثيرا كما في أربيل.

وتنتشر في مقاهيهم لعبة ال دومينو بل من النادر أن تجد لعبة الكوتشينة او الشدة،

كما أن فيها أطعمة محببة لديهم وهي (ال قيمه ى) و (الدونما)، وما زال البعض منهم يقيم أعراسه في الحدائق من باب الإشهار المطلوب في الإسلام.

أما في حلبجة وهي محافظة أشبه بقرية وادعة بالقرب من السليمانية، فما زال أهلها إلى الآن يحتفظون بلباسهم التقليدي، ويغلقون محالهم باكراً،

ليس فيها فنادق، وإن عرفك أهلها غريباً، فإنهم لا يأخذون منك ثمن علبة السجائر مثلاً، أو كأس الشاي الذي طلبته، بل يُصرّون عليك أن تنام في دارهم حتى وإن كانوا لا يعرفونك.

وأخيراً ها أنا ذا أرتدي الزي التقليدي للعيد، ذو الأكمام الطويلة والورود المنتشرة على أطرافه كالحديقة، ولكن إلى أين سأذهب؟ قلت في نفسي " سأذهبُ حيثُ يذهبون

توجه الجميع إلى الجبال، وفي الطريق كنت أرى على كل تلّةٍ مهرجان من الناس بالأزياء الملونة الجميلة، يوقدون النار، ويطبخون الطعام، ويرقصون.. غناء في كل مكان.

اخترت تلة أنزل فيها، ومعي المصوّر يرتدي أيضا الزي التقليدي كسائر الرجال، سروال عريض يحيط بخصره حزام ملفوف من القماش الرائع، يعلوه قميص بياقةٍ عالية وسترة من لون السروال، زي يحمل معاني الرجولة.

تقدمنا بين الناس نحييهم في عيدهم، رحبوا بنا أجمل ترحيب، ودعونا للرقص معهم، شاركت في هذه الرقصة التي لا أعرفها، لكنها جميلة جدا، تلتصق فيها الأكتاف والأيدي وتهتز بحركة توحي أنهم جميعا شخص واحد يتحرك يميناً وشمالاً.

ومع اقتراب غروب الشمس بدؤوا يشعلون النيران، وكأن النجوم سقطت متفرقة على سفح الجبل

 نعم ها أنا أعدُّ تقريراً عن عيد النوروز وأستمتع بمنظر النار المشتعلة في الجبال، وأنا أرتدي زيهم الذي تمنيته قبل أربعةٍ وعشرين عاماً.