بارزاني والجسر الأخير

Kurd24

امتزجت تلك الكلمات التي كنت أقرأها من كتابه "بارزاني والحركة التحررية الكوردية" مع أصوات سيارات الإسعاف والتي كانت تنقل جرحى مقاتلي البيشمركة من ساحات وجبهات القتال ضد تنظيم داعش حينما كنت جالساً في المكتبة البدرخانية في مدينة دهوك أواخر خريف العام 2015 في تلك اللحظات عصفت بي موجة من الدموع التي كان لها أكثر من سبب ولربما أن سيرة هذا الإنسان لامست في نفسي الشقين اللذين لا يفترقان الأول فيهما هو اللاجئ السوري الباحث عن الطمأنينة والسكينة في زمن الحروب والذي وجد في هذه البلاد الملاذ الآمن له ويرى بعينه كيف يدافع أهلها عنها بكل جسارة والثاني هو الإنسان الكوردي الذي تتعطش روحه للتحرر والخلاص ورأى في هذا الرجل الشيء الكثير من ذاته وكينونته ولربما بكيت لأنني شعرت بأنني إنسان من حقي أن يكون لي أرض أعيش فيها بكرامتي وقانون يصون حقوقي وأن لا أغرق في قاع البحار في رحلة بحثي عن وطنٍ جديد.

كان السيد الرئيس مسعود بارزاني يصف في تلك السطور البسيطة واحدة من أعظم المحطات المحورية في حياته الشخصية والتي أثرت فيما بعد على حياة الكثيرين كان يصف تلك اللحظات التي أصبح فيها مقاتلاً في صفوف البيشمركة محققاً الحلم الأعظم الذي راود طفولته وذلك بعد أن أفصح عن هذه الرغبة لأخيه الأكبر طالباً منه مراسلة الأب بارزاني الخالد راجياً موافقته بالإنضمام إليه والذي كان وقتها بعيداً عن البيت يقود في الجبال ثورته ضد الطغيان وبعد مفاوضات ماراتونية قام بها وبإصرار كبير لنيل موافقة الأب والعم الأكبر وأخاه الكبير اتى القبول أخيراً من الجميع واتى ذلك اليوم المتفق عليه لكي ينضم فيها إلى البيشمركة حيث كان يصف ذلك الجسر المتواجد في إحدى المناطق الجبلية في كوردستان العراق والذي عبره وحيداً حيث كان ينتظره على الجانب الآخر أحد مقاتلي البيشمركة كان يصف تلك الخطوات الصغيرة التي كان يخطوها على الجسر وكأنها خطوات نحو الولادة الجديدة نحو الحرية التي كان ينتظرها منذ زمن بعيد.

لربما سيسجل التاريخ باسم الشعب الكوردي واحدة من أكثر النضالات الأسطورية الطويلة في سبيل الحرية والسيادة على أرضهم والتي بذل فيها أجيال من أبناء هذا الشعب أرواحهم وحياتهم من أجل ذلك حتى ارتسم لهذا الإنسان طريقاً أضائه بنضاله منذ نعومة أظفاره ولعل سير العظماء والأنبياء في العالم بأسره لا يكتب لها دوماً النجاح المستمر ولا توجد فيها أشياء مطلقة دوماً ولا تتوافر لهم الفرصة الكاملة والمكتملة بل على العكس إنما هي من أكثر السير التي تنهال عليها المصاعب والشدائد والمحن والظروف القاهرة لكن وحده القدر والإرادة التي يمتلكونها من ترسم لهم الطريق فالسيد المسيح عليه السلام كان أكثر الناس يقيناً وعلماً في تلك الليلة بأن يهوذا الإسخريوطي سوف يشي به للعسكر الروماني ويخونه ولربما كان لديه الخيار الأكبر لتغيير مسار تلك القصة العظيمة لكنه كان مؤمناً بما كتبت له السماء وبما هو مقتنع به مصمماً على أن يؤدي رسالته حتى النهاية متحملاً كل عذاب وألم والنبي الأكرم "محمد" عليه أفضل الصلاة والتسليم كان خير خلق الله على وجه البرية وبالرغم من أن جميع العرب كانوا يسمونه بالصادق الأمين لكن رغم ذلك لم تجتمع قلوبهم على محبته والإيمان بما جاء به فبقي يعاني من مكائدهم وشرورهم طوال حياته وهو يستقبل البلية تلو البلية منهم والقائد الكوردي الإسطوري صلاح الدين الأيوبي الذي استطاع أن يجمع راية المسلمين في واحدة من أعظم المعارك التاريخية بين حضارتي الغرب والشرق إلا أن أنفسهم أولئك المسلمين تركوه وحيداً بعدها يدافع عن القدس في قلة من جنده لم يسعفه وقتها سوى الحنكة والسياسة الأيوبية في مواجهة واحد من اقوى قادة الأرض وهو ريتشارد قلب الأسد الذي اضطر للجنوح إلى عقد السلام معه وكان غاندي المحرر الفكري الأول لشعوب شبه الجزيرة الهندية وقضى جل عمره في محاربة الاستغلال والعبودية التي كان يتعرض لها الهنود بأبشع الأنواع والأساليب من قبل الاحتلال البريطاني رغم ذلك لم يحظى بتلك الأهمية لديهم وحتى اليوم يتجادلون في تقييمه ويضعونه سبباً من أسباب تقسيم الهند.

ولربما هذه الاشياء جميعها انطبقت على الكثيرين من المناضلين الكورد وهو نفسه ذاك القدر الذي تكرر في كل مرة وكان دوماً يعاند ويعاكس طموحات ورغبات الشعب الكوردي هذا القدر الذي صمم هذا الرجل على أن يواجهه بعزمه وأيمانه بعدالة قضية شعبه في كل محنة وأن يصل بالقضية الكوردية إلى أكبر إنجاز فكري وأن يخرج كوردستان من القوقعة الضيقة إلى الفضاء العالمي السياسي والمعرفي والإنساني الرحب.

بارزاني قطع في طفولته حين كان يبلغ الخامسة عشرة من عمره أول جسر نحو الحرية وبعد أكثر من 50 عاما في النضال والكفاح العسكري والعذاب والصمود والتضحيات والدبلوماسية السياسية وجولات المفاوضات المختلفة على مر السنين ها هو اليوم يتهيئ بأن يقطع بملايين من الكورد الجسر الأخير نحو الحرية الأبدية وربما سيكون الشعب الكوردي آخر الشعوب الواصلة إلى موانىء التحرر وربما يحتاج من الوقت والزمن والجهد الشيء الكبير والكثير حتى يبدأ المساهمة الفعلية في الإنتاج الحضاري والإنساني والفكري إلا أن هذا الشعب يكتب مع هذا الإنسان واحدة من أعظم الرسائل الإنسانية الخالدة والتي ستبقى على مر الوجود حتى بات كل شيء في كوردستان ينطق بها حتى الأنهار والجبال والوديان باتت تقول بأن كوردستان دولة لن تبنى على أساس الحقد والكراهية والكيد للجوار كوردستان ستثبت للعالم أجمع أنها سوف تزرع في موضع كل جرح وكل ألم وكل قطرة دماء زهرة من المحبة والخير والتسامح كوردستان ستكون مشرعة أبوابها للجميع للعرب والفرس والأتراك وللعالم أجمع واليوم تنتهي واحدة من أكبر صفحات النضال والتحرر الإنساني وها هو الشعب الكوردي يبدأ صفحة الحضارة صفحة الإنسانية وثورة الإعمار والبناء والعلم والتربية والتطور. 

ان وصل السيد الرئيس مسعود بارزاني إلى الجسر..... إن عبره أو لم يعبره فلا تأثير للنتيجة على الإطلاق فهو قد حرر نفسه وحرر الكورد في ذواتهم وداخلهم منذ عبوره لأول جسر منذ أكثر من 50 عاما.

 

- هذه المقالة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تتبناها كوردستان24 بأي شكل من الأشكال.