ثورة تصحيحية.. ثلاثة برلمانات في العاصمة بغداد

Kurd24

الدستور هو عقد سياسي يحوي مبادئ تجمع أطراف سياسية حول بنود ملزمة التطبيق ومتفق عليها، تنظم سلطات الدولة وإداراتها، تتضمن صلاحيات الحكام وحقوق المحكومين فيها، واي إخلال بفقرة من فقراته يستدعي محاسبة الجهة المقصرة، وتكون الجهة المتضررة في حل من الالتزام ببنوده الأخرى.

بمراجعة مواد الدستور العراقي ومدى تنفيذ الأطراف السياسية لبنوده خلال الست عشرة سنة الماضية، يتضح لنا جليا أن ما يزيد عن خمسين بندا لا يزال معلقا لم يتم تنفيذه أو الالتزام به. أدى عدم تنفيذ قسم منها الى تبعات سياسية كبيرة بين المكونات العراقية كتلك المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها.. وقسم آخر يؤدي عدم تنفيذها الى نسف العملية السياسية بمجملها وإبطال كل القوانين التي شرعت منذ إقرار الدستور ولغاية يومنا هذا، كالامتناع عن تنفيذ البند المتعلق بتشكيل المجلس الاتحادي ففي الباب الثالث ضمن السلطات الاتحادية ينص الفصل الأول - المادة 48 على أن "السلطات الاتحادية تتكون من مجلس النواب ومجلس الاتحاد".. وهذا يعني أن مجلس الاتحاد لا يقل أهمية عن البرلمان العراقي دستورياـ فكلاهما يشكلان مع بعض جناحا السلطة التشريعية في العراق، وبما انه لم يتم البت في تشكيل المجلس الاتحادي لغاية اليوم، فان السلطة التشريعية في العراق غير متكاملة، الأمر الذي يرفع الشرعية عن السلطات الاتحادية ويجعل من الاقتصار على البرلمان العراقي كمؤسسة تشريعية وحيدة في العراق أمرا غير دستوري، وبالتالي فمن الناحية الدستورية يمكن الطعن بكل القرارات والتشريعات التي شرعها البرلمان منذ 2005 ولغاية يومنا هذا.

اذا ما الذي أدى بالأطراف السياسية العراقية الى التغاضي عن تشكيل المجلس الاتحادي لغاية اليوم؟، إن ما دفع هذه الأطراف للاكتفاء بالبرلمان دون المجلس الاتحادي هو سببان، الأول: عدم رغبة الأطراف السياسية في عرقلة مسيرة العملية السياسية نظرا للظروف الحساسة التي كانت تمر بها عملية تشكيل ما سمي بالعراق الجديد، ثانيا: اتفاقهم على أن يكون مبدأ "التوافق" هو السائد في تشريع القرارات في البرلمان دون احتكار من قبل طرف من الأطراف.

وهكذا فان الاتفاق على اعتماد مبدأ "التوافق" في تشريع القوانين في البرلمان ألغى الحاجة الى وجود المجلس الاتحادي الذي كان الغرض من وجوده أساسا هو الإبقاء على القرار الجمعي في العملية السياسية. بمعنى آخر فقد جرى "التوافق" بين المكونات السياسية على تعليق تشكيل مؤسسة دستورية مقابل الاعتماد على مبدا " التوافق" في تشريع القوانين في البرلمان.

والمفارقة الآن تكمن في أن البرلمان الذي شرع وجوده بناء على مبدأ التوافق، جاءت الكتل النيابية الشيعية بعد سنوات لتنهي هذا المبدأ في تشريع القوانين، وتلجأ الى مبدأ الأغلبية النيابية في عملها داخل البرلمان، وبذلك يكونوا قد الغوا المبدأ الذي أجيز للبرلمان التفرد بتشريع القوانين فأفقدوه مسوغات وجوده.

إن احتكار الكتل الشيعية للقرار داخل البرلمان يعتبر انقلابا على العملية السياسية وضربا لمبدأ الديمقراطية التي بنيت على أساسها، وضعت اللمسات الأخيرة لدكتاتورية الأغلبية التي دأبت هذه الكتل على التخطيط لها منذ سنوات. فبإمكان الأحزاب الشيعية فرض أي قرار حتى وان كان ضد مصلحة بقية المكونات. وشهدنا كيف مرر قانون الحشد الشعبي، وقانون خروج قوات التحالف من العراق، وكيف تمرر مشاريع الموازنة كل سنة دون الالتفات لآراء بقية الكتل. بمعنى آخر، إن البرلمان الحالي أصبح برلمانا لمكون واحد دون بقية المكونات، وهو اختزال للدولة في ذلك المكون. وهكذا أصبح البرلمان خطرا على مستقبل بقية مكونات العراق بدلا من أن يكون ضامنا لحقوقها. 

إن الدفع باتجاه حل البرلمان قد يكون بداية لتصحيح المسار الديمقراطي في العملية السياسية، لكنه ليس حلا مضمونا في هذه الظروف، فقد يؤدي الى تبعات سياسية لا يمكن السيطرة عليها، بيد انه يمكن التفكير بتغيير ماهية البرلمان العراقي.

هناك قاعدة فقهية يمكن الاعتماد عليها في موضوعة البرلمان دستوريا وهي "أن الأصل في التشريعات هو الإباحة ما لم ترد نصوص تمنعها"... فبنود الدستور وفقراته المتعلقة بالبرلمان لم تحدد ماهية البرلمان العراقي، أو مواصفاته، ولا هيكليته، ولم تضع شروطا معينة في كيفيته. وما نراه اليوم من كينونة البرلمان وتركيبته، ما هو إلا نتاج عرف سياسي توافقت عليه الأطراف السياسية العراقية. لكن ذلك لا يعني انه ليس بالإمكان وضع ماهية أخرى للبرلمان العراقي مختلفة عن ماهيته الحالية.

فقد أغفل الدستور العراقي عن ذكر أي إشارة أو نص يفرض وجود برلمان واحد في بغداد، وليست هناك نصوص تمنع وجود أكثر من برلمان في العاصمة، وكل ما مذكور من نصوص دستورية حول البرلمان هو توضيح لصلاحياته، دون الإشارة الى أعداده أو أنواعه، وبذلك يمكن الاستفادة من التغافل النصي عن ذكر عدد أو ماهية البرلمان وشكله، وتأويله حسب مصلحة المكونات العراقية، بالدفع لتشكيل اكثر من برلمان إضافة للبرلمان الحالي الذي يمكن اعتباره برلمانا للمكون الشيعي، وتشكيل برلمان آخر يضم الكورد والسنة.. أو برلمانيين، أحدهما للكورد، والثاني للسنة في العاصمة الاتحادية بغداد. تعقد جلساتهما في مبنى البرلمان العراقي.

كل المواد الدستورية التي تتحدث عن البرلمان تتضمن الحديث عن نسب وليس أعدادا، وبذلك لا يصطدم عدد مقاعد النواب السنة في البرلمان السني المنشود، أو عدد مقاعد النواب الكورد في البرلمان الكوردي المنشود، مع البنود الدستورية, والمادتان الوحيدتان اللتان تتحدثان عن أعداد محددة للبرلمان هما :

المادة 58 - أولا وتنص على انه لرئيس الجمهورية، أو لرئيس مجلس الوزراء، أو لرئيس مجلس النواب، أو لخمسين عضواً من أعضاء المجلس، دعوة مجلس النواب إلى جلسةٍ استثنائية، ويكون الاجتماع مقتصراً على الموضوعات التي أوجبت الدعوة إليه.

كذلك المادة 60 –ثانيا، وتنص على أن مقترحات القوانين تقدم من عشرةٍ من أعضاء مجلس النواب، أو من إحدى لجانه المختصة.

وكما نعرف فان عدد مقاعد النواب السنة والنواب الكورد تتعدى الأعداد المذكورة، وهو ما لا يتعارض مع هذه المواد الدستورية، أما بقية المواد فتتحدث كما قلنا على نسب، مثل "اغلبيه" أو "ثلث" ونسب أخرى، دون الدخول في احتساب أعداد المقاعد. عليه فان تشكيل ثلاثة برلمانات متعددة في بغداد لا يصطدم مع أي نص دستوري ويعتبر أكثر شرعية من وضع البرلمان العراقي الحالي المسير بدكتاتورية الأغلبية التي تتعارض مع مبدأ التوافق والديمقراطية المنشودة.

إن تشكيل عدة برلمانات في بغداد يعتبر حركة تصحيحية لترسيخ مبدأ الديمقراطية في العملية السياسية، من خلال محورين، الأول: يعتبر ضمانا لحقوق المكونات الأخرى التي حاول مكون الأغلبية استباحتها من خلال التحكم بقرار البرلمان واحتكاره لمصالحه. والثاني يعتبر خطوة متقدمة عن خطوة تشكيل الأقاليم التي منعتها الكتل البرلمانية الشيعية، فالمكون السني الذي كان مع كل محاولة تشكيل إقليم له ينعت بكل ما في قواميس اللغة من كلمات تخوين وتبعية، يستطيع من خلال هذا البرلمان أن يحافظ على نفس الحقوق التي يطمح المحافظة عليها في تشكيله للإقليم.

إن إرجاع تأثير القرار السياسي لبقية المكونات الى العملية السياسية مهمة وطنية يجب على الجميع العمل عليها، سواء بتشكيل المجلس الاتحادي، أو بتشكيل برلمانات متعددة كما أسلفنا، ولا يمكن أن تدار الدولة برؤى مكون واحد سواء كان هذا المكون شيعيا أم كورديا أم سنيا، فعلى الجميع أن يدركوا أن العراق دولة اتحادية وليست مركزية.