إسهام الكورد في خدمة الحضارة الإنسانية

Kurd24

تباينت آراء الباحثين والمؤرخين حول الانتماء الحقيقي للكرد وجنس أسلافهم التاريخيين، وهذا ما انعكس بدوره على العصر التاريخي الذي يستطيع الباحث أن يعتمده كبداية للتاريخ الكردي قبل الإسلام.

ولكن استنادا إلى مصادر تاريخ الكرد قبل الإسلام من دينية (توراتية ومسيحية) ويونانية وأرمنية وفارسية وإلى الرأي الراجح  بانتماء اللغات الميدية والكردية والفارسية إلى أرومة اللغات الهندوإيرانية، استنادا إلى هذه البينات فإن المستشرق الروسي فلاديمير مينورسكي(1878 – 1966م) طرح نظرية مفادها أن الكورد ما هم إلا أحفاد الميديين الذين هاجروا من المناطق التي تحيط ببحر قزوين غرباً وجنوباً نحو الغرب (كوردستان) بعد سقوط الدولة الآشورية عام 612 ق.م. جاء ذلك في المؤتمر العشرين للاستشراق الدولي الذي عقد في بروكسل عام 1938م.

وكان الصراع سجالاً بين الميديين (أجداد الكورد الحاليين) والآشوريين في الفترة من 836 ق.م إلى غاية 612 ق.م عندما تمكن الميديون بالتحالف مع الكلدانيين بقيادة زعيمهم نبوبلاصر من إلحاق الهزيمة بالآشوريين واحتلال عاصمتهم نينوى عام 612 ق.م، وبذلك تقاسمت الدولتان الميدية والكلدانية منطقة الشرق الأدنى مناصفةً بينهما.

وفي الوقت الحاضر فإن غالبية المؤرخين والباحثين الكورد يعتبرون الميديين أسلاف الكورد الحاليين وعلى هذا الأساس اعتبروا بداية ظهور الميديين ككيان سياسي عام 700ق.م تقريبا بداية للتاريخ الكوردي على غرار الأمم الأخرى.

وفي سنة 550 ق. م تمكن زعيم قبائل البارسيين- الفرس "كورش الإخميني" (559 – 529ق.م) من الانقلاب على جده لأمه الملك الميدي (أستياك – أشتياك) في العاصمة (همكتانا – همدان) فأسس أول دولة فارسية في التاريخ تحت اسم (الدولة الإخمينية- الهخامنشية) التي دامت الى سنة331ق.ن عندما قضى عليها الاسكندر المقدوني.

وبخصوص الحضارة الميدية وإسهاماتها في خدمة البشرية فإن العديد من التنظيمات الإدارية والسياسية والعسكرية الميدية اقتبسها مهنم الإخمينيون، كالألقاب الرسمية وتنظيم إدارة الدولة والمصطلحات العسكرية كـ(قائد مائة جندي- أو آمر الفصيل- والمسؤول عن العينة – وهيئة العقاب)، وقد نظم أحد الباحثين الأوروبيين قائمة بتلك المصطلحات الميدية التي كانت تستعملها الإدارة الإخمينية، واستعارها فيما بعد اليونانيون الإغريق والرومان. كما أن إحدى قبائل الميديين وهي الزاكروتيين طغى اسمها على الجبال التي تفصل العراق عن إيران وهي سلسلة جبال زاكروس.

أما زرادشت الذي يعد فيلسوفاً إيرانياً أو نبياً إيرانيا وفق طروحات بعض علماء الملل والنِحل المسلمين كابن حزم والشهرستاني والقلقشندي فقد فقد عاش في العصر الميدي في الحقبة ما بين 660-583 ق.م. وكتب وصاياه بالخط الافستي أو الميدي، ولغة كتابه المقدس (الآفيستا- الآوستا– الآبستاق) في نظر غالبية الباحثين الأوروبيين هي اللغة الميدية، فلاعجب إن كان للحضارة الميدية تأثير كبير وإسهام فعال في تكوين البنية الفكرية والروحية للشعوب الهندوإيرانية وجيرانهم الساميين.

ومن جانب آخر كان من نتائج التحالف الميدي الكلداني أن حدثت مصاهرة بين الجانبين، حيث تزوج نبوخذ نصر ابن الملك الكلداني نبوبلاصر (أميتس) ابنة الملك الميدي أستياك، وعندما لم تستطع أن تساير البيئة الجديدة التي بدأت العيش فيها لأن مدينة بابل عاصمة الدولة الكلدانية أرض سهلية وهي ابنة الجبال، بنى لها زوجها الملك نبوخذ نصر برجا هائلاً على شكل جبل وبطريقة ميكانيكية رفع إليها الماء من نهر الفرات، وقد سمى الأقدمون هذا البرج بالجنائن المعلقة، وعدت إحدى عجائب الدنيا السبع.

كما أسهم الكورد في رفد حضارة وادي الرافدين وكانوا جزءا من باقي الحضارات القديمة التي ظهرت في منطقة الشرق الادنى، في تحديد انتشار الموجة الثانية من البشرية بعد استقرار سفينة نوح (عليه السلام) على جبل الجودي الواقع في شمال كوردستان قبل أكثر من سبعة آلاف عام.

ومما لاشك فيه أنه كان للكورد إسهام لابأس به في الحضارة الإنسانية لأنه على أرضهم ظهرت أولى الحضارات البشرية، فقد حدد سكان العراق القدماء من السومريين والأكديين والآشوريين بداية انتشار الموجة الثانية من البشرية بعد استقرار فلك اُوتونابشتم (نوح عليه السلام) في جبل من الجبال الكوردية هو (كشاد كوتيوم) حسب النص الأكدي، و(نيسير أو كينيبا- بيره مكرون) حسب النص الآشوري. وفي التوراة وتحديداً سفر التكوين (8: 3-5) يشير ناسخو العهد القديم إلى أنه [بعد مائة وخمسين يوماً نفضت المياه واستقر الفلك في اليوم السابع عشر من الشهر على جبل آراراط]، في حين حدد القرآن الكريم موقعاً قريباً لهذا الحدث الجلل في الآية 44 من سورة هود {… وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي...}.

وعلى أية حال فقد حفظت لنا السجلات التاريخية التي تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد أسماء عدد من الآلهة التي عبدها سكان شمال وادي الرافدين (سكان كوردستان القدماء)، فضلا عن عدد من الملاحم والأساطير التي كان لها تأثير في تطوير الوعي الاجتماعي والبنية الذهنية لهذه الشعوب والشعوب المجاورة التي انتقلت إليها هذه المعبودات، وكانت لها تأثيرات واضحة وجلية في خلق مشاعر مشتركة حددت بمرور الزمن روابطها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مطورة أوجها عديدة للحياة العامة، اندثر قسم كبير منها وظل أقلها مدوناً في وادي الرافدين ومصر وإيران والهند واليونان. ومن هذه الآلهة: (نيني Nini إينانا)، الإله موس (MUS)، أُودو (UDU)، إله الشمس سوريا (آسورا SURIYA)، الإله تيشوب (TESUP)، كوماربي (KOMARBI)، الإلهان شيميكا وكوشوخ (إلها الشمش والقمر عند الخوريين- الحوريين).

وبجانب المعبودات الزاكروسية التي ذكرناها آنفاً، فقد شاركت آلهة أخرى في عقيدة سكان المناطق الشمالية والشرقية لوادي الرافدين (سوبارتو) ترجع أصولها إلى المعتقدات والأساطير الميثولوجية للأقوام الهندية – الآرية) التي تركت مواطنها في جنوب روسيا في بداية الألف الثانية ق.م والتجأت إلى كل من الهند وإيران والأناضول وبلاد سوبارتو (كوردستان)، وكان أشهر هذه المعبودات:

آسورا الهندية أو سورياش الكاشية خالق الكون والإنسان، وهورفتات (هاروت في القرآن الكريم) وماروتاش (ماروت في القرآن الكريم)، ووارونا وإندرا وناساتيا المذكورة في الفيدا (الكتاب الهندوسي المقدس)، وميثرا الذي انتشر خارج المنطقة الكوردية حتى وصل أوروبا، فقد آمن به اليونانيون والرومان واعتبروه إله الملوك والمعاهدات الدولية وإله الجنود حيث كانت تنحر الثيران في عيد ميلاده.

وبعد انهيار الدولة الإخمينية الفارسية عام 331ق.م انتشرت عبادة ميثرا (إله الشمس المنير) في بقعة واسعة بين كردستان والأناضول وخاصة بين افراد الطبقات الأرستقراطية وأمراء الأقاليم، لذلك دخل اسمه في تركيبة عدد كبير من الألقاب الملكية مثل: ميثرادات الأول والثاني والثالث البرثي وميثرادات السادس ملك البنطس (منطقة البحر الأسود)، وميثرادات ملك الإرمن وغيرهم. ومنذ عام 136م صنعت في الإمبراطورية الرومانية مئات التماثيل والأصنام لهذا الإله وأصبحت الميثرائية عند الرومان دين إطاعة الملوك، وقد شجعها الأباطرة. أما في العصر الساساني فيقول المؤرخ الدانماركي آرثر كريستنسن :"إن الشمس التي كان يعبدها مجوس العهد الساساني ليست خور وإنما هي مهر، ميثرا اليشتات القديم الذي جعل منه الميثريون الشمس التي لا تقهر".

وانعكست صيغة كنيته الحديثة (ميهر) في بعض الكلمات والأسماء الكوردية مثل: ميهربان (الرحيم)، وميرزا (السيد والمبجل)، و(المار) عند السريان المسيحيين بمعنى الشيخ، كما دخل اسم الاحتفال بيوم مولده إلى العربية بصيغة (مهرجان). أما الكنيسة المسيحية فقد جاملت ميثرا مجاملة عظمى باحتضان عيده الأكبر الذي يقع في 25 ديسمبر/كانون الأول، وهو يوم ميلاد (الشمس التي لا تقهر)، واتخذت منه عيد مولد السيد المسيح عليه السلام.

كان الكورد يعيشون كمجموعات قبلية ضمن الإمبراطورية الفارسية الساسانية في غياب أي كيان سياسي خاص بهم في هذه الفترة، وبالتالي كانوا جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية الفارسية. في هذا الوقت توالت الانتصارات الإسلامية على القوات الفارسية في معارك القادسية وجلولاء ونهاوند (فتح الفتوح). وكان من نتائجها أن حدث احتكاك بين العرب المسلمين الفاتحين وبين الكورد.

دخل غالبية الكورد في الإسلام طوعا نتيجة ما لاقوه من ظلم على يد الامبراطوريات التي حكمت بلادهم، وكان لهم إسهام بارز في فيما بعد في رفد الحضارة الاسلامية بالعلماء والمفكرين، ولم تقم الإمارات الكوردية بالتآمر على الخلافة الإسلامية في أوقات ضعفها مثلما فعل الفرس أو البويهيين الديالمة وغيرهم.

ومهما يكن من أمر فإن غالبية المناطق الكوردية من مدن وقرى وقلاع وزموم في مناطق الجزيرة الفراتية وأرمينيا وأذربيجان وأقاليم الجبال الغربية وخوزستان قد فتحت صلحاً، ماعدا مناطق قليلة فتحت عنوة كشهرزور (محافظة السليمانية) فقد لاقى المسلمون مقاومة شديدة من سكانها، فضلاً عن بعض مناطق أذربيجان – ميديا الصغرى، ومناطق ماسبذان والصيمرة الواقعة في جنوب إقليم الجبال الغربي (لورستان) حيث جرت بين المسلمين والفرس المدعومين من قبل الكورد معارك طاحنة كانت نتيجتها انتصار المسلمين. وبحلول عام 21هـ/642م بعد معركة نهاوند ( فتح الفتوح) دخلت غالبية بلاد الكورد تحت سلطة الخلافة الاسلامية، وبدأت عملية أسلمة المجتمع الكردي تمشي على قدم وساق لعقود عدة.

إن دخول الكورد في الإسلام ربما أشعرهم بكينونتهم كجماعة متميزة بلغتها وتراثها وتاريخها ضمن الجماعة الإسلامية، التي كانوا قد افتقدوها لقرون كثيرة، حيث أسهمت المصنفات والمدونات الاسلامية في التعريف بهم وببلادهم وبتاريخهم على سبيل المثال: (= بلاد الكورد – جبال الكورد – قلاع الكورد، زمزم الكورد، الاكراد...الخ). ومن جانب آخر فإن فقدان الكورد لدولتهم الميدية وتقلص دورهم الحضاري في ظل الدول الأجنبية التي توالى حكمها على كردستان مثل: الإخمينيين واليونانيين والبرثيين (ملوك الطوائف) والساسانيين، جعل من الطبيعي أن يرحبوا بالإسلام باعتبار ذلك وسيلة انتقال إلى وضع أفضل مما كانوا فيه، فضلا أنهم تخلصوا من النظام الطبقي الفارسي المقيت السائد آنذاك، ومن ظلم الدهاقنة الفرس وفسادهم، وتعقيدات رجال الدين الزرادشت التي كانت تلقي عليهم تقاليد وطقوسا لا قبل لهم بها.

وفي حقيقة الأمر لم يمس الإسلام الكيان القومي للكورد داخل وطنهم، بل إنه ساعد على تعزيز ذلك الكيان في وجه الشعوب والأنظمة غير الإسلامية المتاخمة لكوردستان، ولا سيما في طرفها الشمالي. يقول باحث محايد إن الخلفاء المسلمين لم يحاولوا التدخل في الكيان المستقل لزعماء الكورد. وذلك يدخل دون شك في الأسباب الأساسية التي دفعت الكورد إلى الترحيب بالدين الجديد والإخلاص له والتفاني من أجله. إن احتفاظ الكورد بخصائصهم القومية وبلغتهم في ظل الإسلام وحضارته لهو درس بليغ من التاريخ كان يجب أن يؤخذ في الاعتبار.

ومما يضفي أهمية خاصة على هذا الأمر أن أبناء الكورد رحبوا بالعربية بوصفها لغة القرآن وأداة الروح والتقرب من الله سبحانه وتعالى. ومع ذلك فإن الكورد وعلماءهم لم يروا أي تعارض بين إيمانهم بالإسلام وإخلاصهم للغة قومهم. كما كان لعلماء الكورد دور متميز في الحضارة الإسلامية بوجود العديد من اللغويين والنحاة والمؤرخين والمفسرين والمحدثين. وهكذا فقد كان اعتزازهم بالعربية وبالإسلام كبيرا بوصفها لغة القرآن الكريم ولم تدر في خلدهم الكتابة بغيرها حتى وإن كان لغتهم، وهذا ما جعل التراث الكردي جزءا من التراث الإسلامي وليس منفصلا عنه.

وهكذا ظل الكرد يؤلفون باستمرار روح الإسلام، كما أنهم أصبحوا جنودا للخلافة الإسلامية في شتى عصورها ولم تؤثر فيهم الاحتكاكات العقائدية والحزبية والمذهبية التي طغت على العديد من القوميات التي تؤلف المجتمع الإسلامي آنذاك، بل أصبحوا سندا ومدافعا أمينا عن الثغور الإسلامية في وجه الروس والبيزنطينيين وحلفائهم من الإرمن والكرج (الجورجيين)، أما دورهم في مقاومة الصليبيين والباطنيين بقيادة الناصر صلاح الدين الأيوبي فأشهر من أن يعرف.

وفي العصور العباسية كان لهم دور مشهود في الدفاع عن حياض الخلافة، وحتى عندما شكلوا دول و إمارات خاصة بهم كغيرهم من الأمم الاسلامية الاخرى أيام تدهور الخلافة العباسية في العصر البويهي 334-447هـ فإنهم بقوا على إخلاصهم لرمز الإسلام آنذاك (الخلافة العباسية)، ولم يحاولوا القيام بحركات التمرد والانفصال أو احتلال بغداد مثل أمم أخرى كالفرس والبويهيين والسلاجقة والخوارزميين، وكان في استطاعتهم فعل ذلك لو أرادوا، ولكنه في اعتقادي الإخلاص للإسلام وللخلافة العباسية لا غير.