
د. دلدار فرزنده زيباري
عميد كلية عقرة التقنية - جامعة عقرة للعلوم التطبيقية
التنافس الأمريكي - الإيراني وأثره على العراق.. الحسابات الاستراتيجية الخاطئة ومستقبل إقليم كوردستان

أدى الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 إلى تغييرات جذرية في المشهد الاستراتيجي للشرق الأوسط. فبدلاً من تحقيق الاستقرار وترسيخ العراق كدولة ديمقراطية ذات توجه غربي، أسفر تفكك نظام صدام حسين عن تعزيز نفوذ دولة جارة للعراق، خاصة بين الأغلبية معينة في البلاد. يستعرض هذا التقرير أسباب الحسابات الاستراتيجية الخاطئة للولايات المتحدة، وتطور التنافس الأمريكي-الاقليمي، وانعكاساته على السياسة العراقية ومستقبل حكومة إقليم كوردستان.
أهمل صناع القرار الأمريكيون تقدير حجم الانقسامات الطائفية في العراق، وافترضوا أن عملية التحول الديمقراطي ستسفر بشكل تلقائي عن نشوء حكومة موالية للغرب. وقد أشار كثير من المحللين إلى أن شيعة العراق، بحكم الروابط الدينية والثقافية العميقة مع إيران، كانوا أكثر إستعداداً للتجاوب مع النفوذ الإيراني. بالإضافة إلى ذلك، فإن انهيار السلطة السنية أدى إلى تمكين هذه الجماعات، مما سهّل اختراق إيران للسياسة والاقتصاد والأمن العراقي.
اعتمد المخططون الأمريكيون كذلك على افتراضات خاطئة مفادها أن قوة القومية العراقية والمشاعر العربية ستقي العراق من تغلغل النفوذ الإيراني. غير أن الفراغ الذي أعقب سقوط النظام، مصحوباً بانهيار مؤسسات الدولة، هيأ بيئة خصبة لطهران لتعزيز نفوذها عبر الأحزاب السياسية والميليشيات الموالية لها.
شكل التهديد الإيراني المستمر محور العلاقات الأمنية الأمريكية مع دول الخليج، إذ عمدت دول عدة مثل السعودية والإمارات إلى تبرير استثماراتها الضخمة في التسليح والشراكات الاستراتيجية مع واشنطن بمواجهة الطموحات والقدرات العسكرية الإيرانية. وفي غياب هذا التهديد، سيتراجع النفوذ الأمريكي بشكل ملموس، ما ينعكس مباشرة على الصفقات العسكرية والاقتصادية. وبالتالي، فإن التنافس بين واشنطن وطهران يجسد معضلات أمنية واقعية، ويمثل ركيزة لاستمرار النفوذ الأمريكي في المنطقة.
ورغم وصف العلاقات غالباً بالعدائية، إلا أن فترات من الحوار والتفاهم غير المباشر برزت من خلال محطات متعددة، من أبرزها:
- الاتفاق النووي الإيراني: وافقت إيران على تقييد برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات، رغم انسحاب الولايات المتحدة لاحقاً من الاتفاق.
- قضية إيران-كونترا في الثمانينات: حيث باعت واشنطن أسلحة لإيران سراً، رغم الحظر الرسمي.
- قنوات الحوار الخلفية: شملت مفاوضات غير علنية، غالباً عبر وسطاء، حول مسائل مثل تبادل الأسرى واستقرار العراق.
- اتفاقات تهدئة غير معلنة: تضمنت حالات تراجع فيها الطرفان عن حافة المواجهة، عبر وضع خطوط حمراء غير ظاهرة وردود محسوبة.
تشير هذه الحالات إلى أنه وعلى الرغم من العداء والتوتر الإعلامي، فقد سادت في أحيان كثيرة إدارة براغماتية للأزمات، خاصة عند مواجهة تهديدات مباشرة للمصالح الجوهرية للطرفين.
تجلى تصعيد التنافس الثنائي في حادثة اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني في بغداد، وما تلاها من ردود إيرانية متحَسَّبة عبر ضربات صاروخية لم تتسبب بخسائر بشرية، عبّرت عن تجنب متبادل لاندلاع حرب شاملة، والاعتماد على رسائل الردع الرمزية بدلاً من التصعيد المباشر.
ورغم العقوبات الأمريكية المشددة، واصلت إيران تعزيز نفوذها الإقليمي من خلال تجاوز القيود واستثمار علاقاتها الوثيقة بالمؤسسات العراقية، إضافة إلى الاستفادة من الحكومة ذات الغالبية الشيعية في بغداد كقناة محورية للتحرك وسط العزلة الدولية. في المقابل، اتسم الموقف الأمريكي بالتردد في مواجهة هذا النفوذ بشكل حازم، ما تزامن مع تراجع ملحوظ في الدعم الأمريكي والغربي لحكومة إقليم كردستان، الحليف التقليدي لواشنطن في العراق. وهو ما يثير مخاوف من أن تتحول مصالح الإقليم إلى ورقة مساومة قابلة للمقايضة ضمن ترتيبات إقليمية أوسع.
تذهب بعض التحليلات إلى أن امتناع إيران المفترض عن الرد على عمليات أمريكية، كاستهداف منشآتها النووية، قد يعكس وجود تفاهمات ضمنية أو ضبط نفس محسوب يهدف للحفاظ على استقرار النظام وتجنب التصعيد. وغالباً ما تستخدم التصريحات الأمريكية عن "إنجاز المهمة" لطمأنة الرأي العام المحلي والإسرائيلي وحلفاء الخليج، في حين تحرص الرسائل الإيرانية على التقليل من حجم الخسائر لتهدئة الداخل ورفع مستوى الردع وتبرير عدم الانجرار إلى مزيد من التصعيد.
لقد أضفى التغير المستمر في ديناميكيات العلاقات الأمريكية-الإيرانية هشاشة متزايدة على وضع حكومة إقليم كوردستان، إذ يظل خطر التضحية بالمصالح الكوردية أو مقايضتها في صفقات إقليمية قائماً مع كل تطور استثنائي. لذلك، ينبغي على الإقليم تبني سياسات خارجية متعددة المسارات، وتعزيز شراكاتها مع واشنطن ودول المنطقة مع الدفاع الفعّال والمبكر عن حقوق الكورد وضمان أمنهم.
بعد أكثر من عشرين عاماً من الغزو الأمريكي، يجسد واقع العراق مزيجاً من الأخطاء الاستراتيجية، والتنافسات الإقليمية المتواصلة، والحسابات البراغماتية لقوى متصارعة. وفي ظل هذه البيئة المتغيرة، يتعين على إقليم كوردستان التحلي باليقظة والمرونة وتطوير قنوات تواصل دولية نشطة، حيث ما يزال التنافس الأمريكي-الإيراني يشكّل قوة محورية في رسم السياسة والأمن العراقيين.