
د. دلدار فرزنده زيباري
عميد كلية عقرة التقنية - جامعة عقرة للعلوم التطبيقية
التصدي للتحديات البيئية وتحسين جودة المنتجات في ظل التجارة الحرة: الآثار والتوصيات للعراق

شهد العراق، في ظل العولمة وتنامي اتفاقيات التجارة الحرة، تحولاً جوهريًا في واقعه الاقتصادي، ما أدى إلى تزايد تدفق البضائع والخدمات ورؤوس الأموال على الأصعدة الوطنية والإقليمية. فمن البصرة إلى بغداد، ومن أربيل إلى النجف، يستورد العراق طيفًا واسعًا من السلع لتغطية احتياجات السوق المحلية وتعزيز التنويع الاقتصادي وتحفيز التنمية. وقد برز إقليم كردستان كنموذج ديناميكي في الانفتاح على الاسواق الدولية، مؤدياً دور بوابة استراتيجية للنشاط الاقتصادي العراقي الأوسع.
ورغم الفوائد الملموسة للتجارة الحرة، كالولوج الأوسع للأسواق وتنوع الخيارات أمام المستهلكين، إلا أن هذه الانفتاحية تعرض العراق لجملة من التحديات الهيكلية، يتصدرها الأثر البيئي للمنتجات المستوردة ومخاوف تتعلق بجودة وسلامة السلع الداخلة إلى الأسواق الوطنية. ويزيد من تعقيد المشهد اختلاف النظم الرقابية بين العراق وشركائه التجاريين، مما يرفع من احتمالية دخول سلع لا تفي بالمعايير البيئية أو معايير السلامة المطلوبة، ويبعث بمخاطر تهدد المستهلكين والشركات والنظام البيئي على حد سواء. يستعرض هذا التقرير الجوانب البيئية والجوانب المرتبطة بجودة المنتجات في مختلف مناطق العراق، ويقدم توصيات عملية تستهدف كل من الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان.
الآثار البيئية للتجارة الحرة في العراق
يعتمد النهج الاقتصادي للتجارة الحرة على الميزة النسبية، إلا أن ذلك قد يكون مصحوبًا بأعباء بيئية غير منظورة، إذ كثيرًا ما تُستورد سلع منشأها دول ذات لوائح بيئية ضعيفة أو لا تراعي الاستدامة. ويمكن تلخيص أبرز التحديات فيما يلي:
عدم تكافؤ الفرص أمام الشركات المحلية، تواجه الشركات العراقية التي تسعى لتطبيق معايير بيئية أكثر صرامة تكاليف إنتاج أعلى، نتيجة الاستثمار في التقنيات النظيفة وأنظمة معالجة النفايات ومراقبة الانبعاثات. وفي المقابل، تجد نفسها مطالبة بمنافسة واردات زهيدة التكلفة، أنتجت ضمن لوائح متساهلة بيئيًا، مما يخفض من قدرتها التنافسية وربما يعيق تحول الاقتصاد الوطني نحو الاستدامة.
إسهام غير مباشر في الأضرار البيئية العالمية، إن استيراد منتجات رخيصة أُنتجت بممارسات تضر بالبيئة في بلدانها الأصلية يؤدي إلى تعميق مشكلات عالمية، مثل التلوث واستنزاف الموارد وفقدان الغطاء النباتي، حتى وإن لم تحدث هذه الأضرار داخل العراق مباشرةً. وبالنظر إلى ترابط الأنظمة البيئية، تظل العراق مساهمة ومتأثرة في الوقت ذاته بسلاسل الإنتاج غير المستدامة على المستوى الدولي.
مخاطر التراجع في التشريعات البيئية، قد تولد ضغوط المنافسة مع سلع مستوردة تُنتج وفق معايير متساهلة نزوعًا لدى صناع القرار العراقيين - في الحكومة الاتحادية - لاتخاذ إجراءات تخفيفية في اللوائح البيئية المحلية، مما قد يهدد باسترجاع المكاسب التي تحققت في حماية البيئة والصحة العامة.
جودة المنتج وحماية المستهلك
أدى تحرير التجارة في العراق إلى وفرة وتنوع غير مسبوق للمنتجات الاستهلاكية. إلا أن العديد من هذه المنتجات لا يلتزم بالمعايير العالمية للجودة والسلامة، الأمرالذي أوجد تحديات فعلية.
المخاطر على المستهلك، غالبًا ما لا تستوفي بعض الواردات - كالألعاب، والأجهزة الكهربائية، والمنتجات الغذائية، والسلع الصناعية - معايير السلامة المعتمدة دوليًا، ما يعرض المستهلكين العراقيين لمخاطر صحية وسلامة يمكن تجنبها. كما يسهم انتشار السلع المقلدة والمنتجات غير الملصقة أو المتدنية الرقابة في إضعاف ثقة المستهلك وفعالية الجهات الرقابية.
الأثر الاقتصادي والبيئي، تؤدي السيولة الكبيرة للسلع متدنية الجودة وعمرها القصير إلى زيادة الهدر وتسريع استبدال المنتجات، ما يحمّل العائلات العراقية أعباء مالية إضافية، ويزيد في ذات الوقت من تحديات إدارة النفايات على مستوى المدن. كما تتأثر الصناعة المحلية في ظل منافسة غير متكافئة، ما ينعكس سلبًا على الابتكار المحلي وفرص العمل.
قطاع الزراعة: المخاطر الحرجة للمدخلات المستوردة
تبلغ تحديات الرقابة على الواردات ذروتها في القطاع الزراعي؛ إذ تحمل الأسمدة والمبيدات المستوردة خطراً مضاعفًا إذا لم تحظَ برقابة صارمة.
المخاطر الصحية والبيئية، يواجه المزارعون أصنافًا من المواد الكيميائية الزراعية تفتقر للملصقات أو الشهادات اللازمة. ويمكن أن تحتوي بعض هذه المدخلات على مواد محظورة أو سامة، بما يهدد الصحة العامة ويلوث المياه والتربة، وينتهي بمخلفات ضارة تدخل ضمن السلسلة الغذائية.
ضعف الإرشاد وتعدد أخطاء الاستخدام، يُشكل غياب الملصقات باللغة العربية أو الكردية عائقًا أمام المزارعين في فهم تعليمات الاستخدام السليم، ما يؤدي إلى إساءة استعمال هذه الكيماويات وتفاقم المخاطر الصحية والبيئية. وتزداد المخاطر حين يجري تحويل كيماويات صناعية إلى أغراض زراعية على نحو غير قانوني.
تهديد استدامة الزراعة والأمن الغذائي، يسهم استخدام مدخلات منخفضة الجودة أو مقلدة بشكل متكرر ودون إشراف في تدهور خصوبة التربة وتلوث الموارد المائية وتسريع مقاومة الآفات، ويمثل بذلك تهديدًا طويل الأمد لسبل معيشة المزارعين والأمن الغذائي الوطني.
توصيات وطنية لمعالجة التحديات
لمواجهة ما سبق من تحديات، ينبغي للعراق تبني مقاربة وطنية علمية وموحدة، تجمع بين الإصلاح التشريعي والاستثمار الرقابي والتوعية المجتمعية. وفيما يلي أبرز التوصيات الموجهة للحكومة الاتحادية:
توحيد وتحديث معايير الاستيراد وتشديد الرقابة، وضع واعتماد معايير استيراد وطنية موحدة، تستند إلى الأدلة العلمية وتُطبق بصرامة على جميع المعابر الحدودية. مع ضرورة توسيع قائمة السلع الخاضعة للفحص الإلزامي والشهادة، خصوصاً المنتجات عالية الحساسية مثل الأغذية، والمنتجات الكيميائية، وسلع الأطفال.
إلزامية الملصقات متعددة اللغات وشفافية شهادات الجودة، فرض وجود ملصقات واضحة ودقيقة باللغتين العربية والكردية على جميع المنتجات وبشكل خاص للأغذية والأدوية والمدخلات الزراعية، مع تقديم إرشادات تحذيرية واضحة ومصدر السلعة. كما يُشترط الحصول على شهادات جودة وسلامة من جهة مستقلة معترف بها.
دعم وتطوير البنية التحتية الوطنية لفحص المنتجات، توسيع شبكة المختبرات الوطنية المعتمدة، وتزويدها بالإمكانيات والكوادر الفنية اللازمة، وإسنادها بالتمويل المناسب لفحص المنتجات وإصدار الشهادات اللازمة عند النقاط الحدودية الرئيسية (مثل إبراهيم الخليل، الوليد، طريبيل، الشلامجة، أم قصر). وتأسيس آلية تنسيق فعّالة بين الجهات الاتحادية والإقليمية لتوحيد آليات الفحص والتتبع.
التوعية المجتمعية وحملات الإرشاد القطاعي، إطلاق برامج توعوية وإرشادية موجهة للعامة وللقطاعات المستهدفة (ومنهم المزارعون و الصناعيون) لرفع مستوى الإدراك بمخاطر السلع منخفضة الجودة وأهمية الشهادات وفهم الاستخدام الآمن لها، وغرس مفاهيم المسؤولية البيئية والاجتماعية.
تحفيز الصناعة الوطنية المسؤولة، تطوير حوافز مباشرة (كالإعفاءات الضريبية والقروض التفضيلية وأولوية التعاقدات الحكومية) للشركات المحلية الملتزمة بمعايير الجودة والسلامة البيئية، بما يحفز الابتكار والنمو المستدام ويقلل من الاعتماد على الواردات مجهولة المصدر.
تشديد العقوبات والرقابة على المخالفات، تطبيق منظومة عقوبات صارمة بحق المخالفين على أي مستوى من سلسلة الاستيراد أو التوزيع ممن يثبت تورطهم في إدخال أو تداول منتجات ضارة أو مخالفة للمعايير. مع العمل على تعزيز التعاون عبر الوكالات الحكومية وتبادل المعلومات الاستخبارية مع دول الجوار والمنظمات الدولية للحد من التهريب وضمان الامتثال.
مراقبة الحدود وضمان الجودة: نحو نموذج وطني موحد
يعد منفذ إبراهيم الخليل بين العراق وتركيا مثالًا يُحتذى به في تطبيق معايير التفتيش المتقدمة واستخدام التكنولوجيا الحديثة وأتمتة الإجراءات. وقد ساعد هذا النهج في حماية السوق والمستهلكين العراقيين من السلع غير النظامية. ويوصى بتعميم هذا النموذج، عبر بناء منظومة وطنية موحدة لمراقبة جودة السلع عند مختلف المنافذ الحدودية، تتضمن التتبع الرقمي والفحوص المختبرية والرقابة المستقلة، لضمان صحة السوق وصيانة البيئة وتعزيز ثقة المستهلك والتجارة العادلة.
إن انخراط العراق في الاقتصاد العالمي يحمل في طياته فرصًا واعدة للازدهار، شريطة ألا يتحقق ذلك على حساب صحة المواطنين أو البيئة أو الاقتصاد الوطني. ويقتضي التصدي لتحديات ضعف جودة المنتجات وتهاون الضوابط البيئية خطة وطنية متكاملة، تجمع بين تحديث التشريعات ودعم البنى التحتية وتفعيل الرقابة والتوعية. فإذا التزمت الجهات المعنية بتطبيق معايير مدروسة واستثمرت في تعزيز القدرات الوطنية للفحص الرقابي، وأدرك المنتجون والمستهلكون معًا مسؤولياتهم، فإن العراق، بكل مناطقه وحكومته الاتحادية والإقليمية، سيكون على الطريق الصحيح لجعل التجارة الحرة أداة للتنمية المستدامة والعدالة الاقتصادية.