
د. دلدار فرزنده زيباري
عميد كلية عقرة التقنية - جامعة عقرة للعلوم التطبيقية
معالجة الفجوة اللغوية في جامعات إقليم كردستان العراق.. دروس في الإصلاح

تُعد اللغة ركيزة أساسية في التعليم العالي. ومع سعي إقليم كوردستان لتطوير نظامه الجامعي وتهيئة طلابه للمنافسة في سوق العمل العالمية، برزت "الفجوة اللغوية" التي تواجه شريحة واسعة من الطلاب الجدد كواحدة من أبرز التحديات أمامنا. ففي كل عام، ألاحظ في جامعات كوردستان العراق وجود طلاب متفوقين ومتحمسين، يعانون بل يتراجعون أحيانًا بسبب نقص في القدرات أو الرغبة، وإنما لأن المقررات تُدرّس بلغة يكادون لا يُلمّون بها. هذه ليست مجرد قضية تعليمية، بل تمس مبدأ تكافؤ الفرص ومستقبل منطقتنا بأسره.
جذور الإشكال في اقليم كوردستان:
تعتمد العديد من الجامعات والمعاهد التقنية في كردستان اللغة الإنجليزية كلغة أساسية للتدريس في تخصصات كالطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات والزراعة، بينما تُقدم برامج القانون ومعظم التخصصات الإنسانية باللغة العربية. رغم ذلك، يتخرج غالبية الطلاب من المرحلة الثانوية بمهارات محدودة في اللغة الإنجليزية و العربية، ما لم يكونوا قد التحقوا بمدارس خاصة — وهؤلاء يمثلون قلة قليلة.
انعكاسات هذا الواقع:
- يجد الكثير من الطلاب الواعدين أنفسهم في حالة ارتباك عند الانتقال فجأة إلى محاضرات، وكتب، وامتحانات باللغة الإنجليزية و العربية في المرحلة الجامعية.
- غالبًا ما يسعى المحاضرون جاهدين لمساعدة الطلاب عبر التبديل بين الإنجليزية او العربية والكردية أو تبسيط المادة العلمية، وهو ما قد يُضعف جودة التعليم والدقة الأكاديمية.
- النتيجة: يتخرج بعض الطلبة بفهم محدود لموادهم الأساسية ومهارات لغوية لا تلبي احتياجات سوق العمل أو الدراسات العليا.
وعلى الرغم من جسامة هذه التداعيات، بقيت الحلول النظامية المحددة على المستوى المؤسساتي محدودة.
دروس مُستلهمة من التجارب العالمية:
لا تواجه اقليم كردستان هذه المعضلة وحدها؛ فدول عديدة أوجدت بدائل مبتكرة لتضييق الفجوة اللغوية في جامعاتها بما يضمن جودة التعليم ومخرجاته. فيما يلي أبرز الدروس المستفادة:
1. برامج تأسيسية للغة، طبَّقت جامعات عالمية رائدة نظام السنة التأسيسية أو برامج تمهيدية إجبارية. في تركيا، على سبيل المثال، يتعين على طلاب الجامعات التقنية الكبرى (كجامعة الشرق الأوسط التقنية وجامعة بوغازيجي) إكمال برنامج مكثف للغة الإنجليزية لمدة عام كامل في حال عدم اجتياز اختبار اللغة، لا يُسمح لهم بالبدء في البرنامج الرئيسي إلا بعد تحقيق الكفاءة المطلوبة.
2. موارد ثنائية اللغة وانتقال سلس، مثلما فعلت اليابان عند تحديث جامعاتها، حيث خُصصت استثمارات ضخمة لترجمة المقررات العلمية للغة اليابانية وتهيئتها للطلاب، فباتت غالبية البرامج تُدرّس باليابانية، مع الحفاظ على مقررات نُخبوية بالإنجليزية لإعداد خريجين قادرين على المنافسة العالمية.
3. دعم لغوي مكثف ومستمر، في مصر ومع تدريس العديد من التخصصات التقنية والصحية بالإنجليزية أو الفرنسية، تُقام دورات لغة صيفية وعيادات مختبرية بشكل مستمر، وتُوفر مواد وقواميس مصطلحات ثنائية اللغة.
4. توافق السياسات والمناهج، تركز دول مثل الصين على تنسيق سياساتها التعليمية مع أهدافها اللغوية، لتحديد دقيق للغات التدريس بكل تخصص، وتقديم دعم للمناهج وأعضاء الهيئة التدريسية، إلى جانب استثمار طويل المدى في تعريب وترجمة الموارد.
خارطة طريق عملية لاقليم كوردستان:
استنادًا إلى التجربة العالمية والواقع المحلي، يمكن اعتماد الخطوات التالية لسد الفجوة اللغوية في جامعات اقليم كردستان ورفع جودة التعليم للجميع:
1. إنشاء سنة تحضيرية باللغة الإنجليزية او عربية
- إلزام جميع المقبولين في الأقسام التي تدرّس بالإنجليزية و العربية بإكمال سنة تحضيرية مكثفة في اللغة الأكاديمية قبل الالتحاق بالبرنامج الأساسي إذا استدعت الحاجة، وإقرار مسارات سريعة للمُتميزين وفق اختبار معياري.
2. تطوير موارد تعليمية ثنائية اللغة
- ترجمة الكتب والمصطلحات الرئيسية، وتوفير قواميس ومسارد باللغتين الكردية والإنجليزية او العربية، مع إعداد مواد رقمية ومطبوعة داعمة وتوفيرها للسنوات الدراسية الأولى.
3. تعزيز التنسيق بين التعليم الثانوي والجامعي
- تحديث مناهج الثانوية العامة لتعزيز تعليم الإنجليزية و العربية الأكاديمية، خاصة في آخر عامين، وتجريب تدريس بعض مقررات العلوم والرياضيات باللغة الإنجليزية و العربية في بعض المدارس الثانوية.
4. دعم لغوي متواصل في الجامعات
- تأسيس مختبرات لغوية ومراكز تعليمية تقدم الدعم والتقوية طوال سنوات الدراسة، وليس مع بدايتها فحسب، والاستمرار في توفير محاضرات ومواد تكميلية ثنائية اللغة.
5. تأهيل وتدريب أعضاء هيئة التدريس
- توفير برامج تدريب لغة إنجليزية و العربية للمحاضرين وحوافز لإعداد محتوى ثلاثي اللغة، وتشجيع تبادل الخبرات بين الأقسام والجامعات داخل الإقليم.
6. رسم وتطبيق سياسة لغوية واضحة
- إصدار الوزارة لإرشادات واضحة حول متطلبات اللغة لكل تخصص، والإعلان المبكرعنها للطلاب، مع تطبيق هذه الخطوات على مراحل مدروسة تخضع للمتابعة والتقويم المستمر.
الفوائد المنتظرة:
باتباع هذه الإجراءات، ستحقق اقليم كردستان:
- نتائج أكاديمية أفضل، وانخفاض معدلات رسوب وانقطاع الطلاب في التخصصات التطبيقية.
- تخريج كوادر مؤهلة بالمهارات اللغوية اللازمة لسوق العمل المحلي والدولي، ما يساهم في جذب الاستثمار والبحث العلمي.
- تحويل الجامعات إلى مؤسسات أكثر شمولاً وإنصافًا، بحيث لا تبقى اللغة حاجزًا أمام النجاح.
بصفتي عميد كلية، أعايش يوميًا حجم التحديات وطاقة الطلاب الكامنة. حاجز اللغة ليس عائقًا مستعصيًا، ومع التخطيط والإرادة، يمكننا تأهيل شبابنا ليكونوا منافسين عالميًا دون أن يُترك أحد خلف الركب.
إنني أدعو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في اقليم وهيئات الجامعات وكافة الأطراف ذات العلاقة، لجعل سد الفجوة اللغوية أولوية قصوى ضمن الإصلاحات القادمة. لنجعل من هذا الحاجز جسرًا يعبر من خلاله طلابنا نحو مستقبل واعد لاقليم كردستان العراق و كل العراق ككل.