صلاح الدين الأيوبي: البطل الكوردي الذي أفلست بسببه آسيا داغر ولم تنصفه الدراما العربية والعالمية

لا زالت السينما في العالم تتحاكى ببطولات صلاح الدين الأيوبي، "الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُويني التكريتي"، فبرغم مرور أكثر من 832 عام على وفاته، إلا أن بطولاته تسطر كأحد القادة الكورد الذين حرروا القدس وأسهموا في نشر الإسلام في العالم العربي، وحكم نحو 20 عامًا، حارب فيها الصليبيين، وحرر منهم 77 مدينة،
تصدت له أوروبا بأكملها، وأوقع بالفرنجة الهزائم، لكن ما لبث أن هاجمه المرض حتى رحل في مارس من عام 1193، ولم يترك وراءه إرثًا سوى دينار و47 درهمًا، ودولة إسلامية موحدة.
تناولته الدراما بكل أشكالها، سينما وتلفزيون وإذاعة، وبرغم كل الأعمال التي تجاوزت الـ20 عملًا، وآلاف المؤلفات، يرى صناع الدراما ومنهم المخرج الكبير هاني لاشين أن بطولات صلاح الدين تحتاج إلى عشرات الأفلام، ولولا أن الدراما التاريخية مكلفة جدًا، وتعد مغامرة كبرى لغامرت بعمل عن بطولاته التي لم تقدمها السينما بعمق كما قرأنا عنها.
وتؤكد المصادر والأرشيف السينمائي بأن أول من فكر في تقديم شخصية صلاح الدين للسينما لم يكن المخرج العالمي يوسف شاهين ولا حتى المنتجة الكبيرة آسيا داغر، ولا عز الدين ذو الفقار الذي رشح قبل شاهين، بل إن مشروع فيلم عن الناصر صلاح الدين كان حلم الأخوين بدر وإبراهيم لاما الفلسطينيين اللذين أسهما في تأسيس السينما المصرية في بداياتها عندما عادا من الخارج إلى الإسكندرية لينشئا استديو وشركة سينمائية. إذ كتب إبراهيم لاما سيناريو فيلم الناصر صلاح الدين عن قصة السيد زيادة، وذلك في عام 1941، وقام ببطولته شقيقه بدر لاما، بدرية رافت ومحمود المليجي، وأنور وجدي، ومنسي فهمي وبشارة واكيم. وتناول فترة الهدنة التي قرر المسلمون والصليبيون توقيعها أثناء مرض ريتشارد قلب الأسد، وينتهز الشباب العرب هذه الفرصة من أجل الانضمام إلى جيوشهم في أورشليم، ومن بين هؤلاء سيف الدين الذي يخفي هويته التي يعرفها الأمير خالد، يتجه الشاب نحو القدس، ويكتسب ثقة السلطان.

اللبنانية التي أفلست بسببه
أنتجت آسيا داغر للسينما المصرية 70 فيلمًا كان آخرها فيلم "صلاح الدين" والذي خسرت بسببه كل أموالها، وآسيا داغر منتجة وممثلة لبنانية، ولدت في قرية لبنانية تعرف باسم تنورين في عام 1901، انتقلت للعيش في مصر في عام 1923 مع ابنة أختها الفنانة ماري كويني، وفي عام 1927 أسست آسيا شركة الإنتاج الخاصة بها، وهي شركة لوتس فيلم التي صارت واحدة من شركات الإنتاج الرائدة في تاريخ السينما المصرية، حتى أن الكثيرين بعدها لقبوها بـ(عميدة المنتجين). دخلت تجربة ظنت أنها ستكون تتويجا لمسيرتها وهي فيلم الناصر صلاح الدين، تكلف إنتاجه 200 ألف جنيه، وهو ما كان يعد وقتها (في عام 1963) أضخم ميزانية وضعت لفيلم مصري على الإطلاق، تراجع عنه عز الدين ذو الفقار فتصدر له يوسف شاهين ..ولم يكن موفقا .
فمع أن الفيلم يصنف حاليًا ضمن أهم أفلام السينما، ويحتل رقمًا متقدمًا، ويراه كثيرون أنه من أجمل ما أخرج يوسف شاهين، يراه أيضًا نقاد بأنه لم يكن بالمكانة التي يستحقها صلاح الدين الأيوبي، وأن يوسف شاهين اهتم بأفكار خاصة به، وأدخل تعديلات على النص، وغير حتى في ديانات الشخصيات مثل عيسى العوام الذي قدمه يوسف شاهين على أنه قائد مسيحي، وأكدت الوثائق أنه كان مسلمًا، بل لم يستعن صلاح الدين في جيوشه بمسيحي واحد، ولويزا هي مجرد شخصية خيالية لا وجود لها، ناهيك عن ظهور الساعة بيد البطل الفنان أحمد مظهر والتي تم إزالتها فيما بعد بالمونتاج.
دراما سورية لم تنتصر له أيضًا
ظن كثيرون أن ما لم تحققه السينما العربية قد تنجح فيه الدراما التلفزيونية فقدمت سوريا مسلسل صلاح الدين الأيوبي من بطولة الممثل السوري جمال سليمان. ففي عام 2001 قدم المخرج حاتم علي مسلسله بنفس الاسم "صلاح الدين الأيوبي" وشارك مع جمال سليمان نجوم من سوريا منهم سوزان نجم الدين، باسم ياخور، نجاح سفكوني، وائل رمضان، محمد مفتاح، وعرض العمل على استحياء لأن بطولات الناصر صلاح الدين أكبر بكثير من مجرد عمل درامي عابر.

تاريخ كوردي أغفلته الدراما
ما أخذ على معظم الأعمال التي قدمت عنه أنها لم تركز على خلفيته الاجتماعية ولا جذوره ولا حتى طفولته، ففي كتب التاريخ الكثير عن الجذور والنشأة، ما يستحق أن يقدم في دراما تلفزيونية وبخاصة الأصل الكوردي إذ تنتمي أسرة صلاح الدين إلى قبيلة الروادية الكوردية، وهي فرع من الهذبانية، إحدى القبائل الكوردية التي استوطنت مناطق بين أذربيجان وأرمينيا وكوردستان. وقد عُرف الجد الأعلى للأسرة، شاذي بن مروان، بالحكمة والزعامة المحلية، لكنه غادر موطنه ليستقر في مدينة تكريت بالعراق، وهناك بدأت فصول جديدة من قصة هذه الأسرة.
والده هو نجم الدين أيوب بن شاذي، الذي تولى إمارة تكريت في عهد عماد الدين زنكي، القائد الشهير ومؤسس الدولة الزنكية. وبعد فترة، انتقل أيوب إلى بعلبك حيث تولى حصنها، ومن هناك رسخ مكانته في الحياة العسكرية والسياسية.
أما شقيقه أسد الدين شيركوه، عم صلاح الدين، فقد كان القائد العسكري الأبرز للزنكيين في الشام، وهو الذي قاد الحملات المتكررة إلى مصر ضد الفاطميين، فاتحًا الباب أمام ابن أخيه صلاح الدين ليكون وزيرًا ثم حاكمًا لمصر.
وُلد صلاح الدين في تكريت عام 1137م (532هـ)، في الليلة نفسها التي غادر فيها والده وعمه المدينة متجهين إلى الموصل بعد فقدان منصبهم. وكأن القدر كان يرسم منذ تلك الليلة طريقًا جديدًا لهذا المولود، الذي سيشب لاحقًا في دمشق والموصل متعلمًا الفروسية والعسكرية والدين.
مملكة السماء وأحلام النبوي
في عام 2004 أعلن في مؤتمر صحفي في مصر بأن هناك عملًا سيعيد انتصارات صلاح الدين، للمخرج العالمي ريدلي سكوت، ويشارك فيه النجوم العرب غسان مسعود، والمصري خالد النبوي، وقال "النبوي" إنه كان حلمه في العالمية، وأن يقدم شيئًا عن صلاح الدين، ولا زال كما يقول يحلم بشخصيتين خالد بن الوليد، وصلاح الدين الأيوبي. وقام بشخصية الناصر صلاح الدين السوري غسان مسعود، وشارك فيه العالميون "أورلاندو بلوم، إيفا جرين، جيرمي آيرونز، ديفيد ثيوليز، بريندان جليسون، مارتون كسوكاس"، ولكن الفيلم لم يركز فقط على انتصاراته بل تناول حقبة الحروب الصليبية على المشرق العربي في القرن الثاني عشر الميلادي، حيث يسافر باليان لمدينة القدس بعد خسارته عائلته، وتتكشف له أسرار المدينة المقدسة حتى يصير مدافعًا عنها وعن سكانها. نجح الفيلم برغم أنه لم يكن الشخصية الرئيسية.
وأشاد النقاد بأداء غسان مسعود لدور القائد التاريخي، وعلى نص وإخراج ريدلي سكوت، الذي صور صلاح الدين بأمانة شديدة وأظهر جوانب الفروسية في شخصه، والاحترام المتبادل بينه وبين بلدوين الرابع ملك بيت المقدس، وقد قال بعض النقاد إن غسان مسعود كان سيترك انطباعًا أفضل إذا ما أعطاه سكوت مساحة أكبر، ومن ثم ظل حلم تجسيد شخصية صلاح الدين كما سطرها التاريخ حتى هذا اليوم ينتظر أن تقدم كما ينبغي، بل وتنتصر للشخصية الكوردية التي تمتلك من الشجاعة أن تقوم جيوشًا وتنتصر في المعارك وتحرر بلادًا محتلة كما فعل الناصر صلاح الدين. ولا زال الناصر صلاح الدين ينتظر ما ينتصر له ولطفولته وكورديته.

