لقب البروفيسورية في الجامعات العراقية ... بين مبدأ العدالة والمساواة

Kurd24

لا يختلف إثنان على أن العراق يواجه العديد من المشاكل كالبنية التحتية المدمرة نتيجة الحروب والإرهاب، الفساد المالي والإداري، مع التراجع الكبير لمؤشرات التنمية وعدم وضوح الرؤية للسياسات المالية والنقدية بعد العقدين من الزمن وكلها عوامل أدت إلى تدهور القطاعات الاقتصادية منها الصناعية والزراعية والسياحية وغيرها، وتدني الأداء الحكومي في تقديم الخدمات، وإستمرار الروتين والبيروقراطية، والفشل في بناء المؤسسات الفعالة وإغراق السوق المحلي بالمنتجات الردئية وعدم كفاءة النظام المالي وإقتصاد معتمد كلياً على النفط بنسبة (95%) وتسجيل أرقام قياسية عالية في العراق لمعدلات البطالة (أكثر من 11 مليون عاطل عن العمل حسب شركة ستاتيستا الالمانية) والتخلف (أكثر من 3 مليون طفل في سن الدراسة خارج المدارس) والفقر (11 مليون فقير حسب وزارة التخطيط العراقية). حيث تظهر هشاشة العراق خاصة عند الأزمات وخير مثال إنهيار النظام الصحي في الدولة عند جائحة كورونا وتفاقم الأزمة المالية عند إنخفاض أسعار النفط وإنهيار الجيش العراقي عند ظهور داعش وبذلك يصبح النظام الاقتصادي والسياسي والأمني في العراق أكثر تذبذباً، وأقل استقراراً، وأكثر عرضةً للمخاطر في المستقبل خاصة بعد فقدان العراق لمعايير الحكم الرشيد من إبداء الرأي والمسائلة والاستقرار السياسي ونبذ العنف وفعالية الحكومة وجودة التعليمات والتشريعات والسيطرة على الفساد وإحترام القانون. حيث حسب مؤسسة كونترول ريسك البريطانية المتخصصة في تقييم المخاطر وضعت العراق في مستوى ذات مخاطر ‏سياسية عالية للسنة (2023)، وهذا يعني هناك تأثير عالي لدرجة الاضطراب السياسي على بيئة الاعمال والتداخل ‏الحكومي في القطاع الخاص وكلها تؤدي إلى انخفاض ‏النشاط الاقتصادي الحقيقي.

وبناء على ما ورد أعلاه، يمكن القول بأن العراق بعد عقدين من الزمن من إنهيار النظام البعثي في العام (2003) لم يرى النور وإستمر حالة الفشل الواضح على مختلف الاصعدة السياسية والأمنية والادارية والاقتصادية والاجتماعية، وليس بعيداً عن ذلك فإن قطاع التربية والتعليم بمؤسساتها الأكاديمية لم تخدم عملية تنمية المجتمع العراقي على الاطلاق ولم تسجيل حضورها العلمي والمعرفي على مستوى المنطقة والعالم وهذا ما يثبته ترتيب العراق في المؤشرات الدولية للتعليم والبحث العلمي، وجودة الحياة، والمعرفة، والابداع، الذكاء الصناعي، والتنمية وغيرها. ولذلك فإن هناك عدة دوافع وراء كتابة هذه المقالة منها الخلط وعدم التفرقة بين الكفاءات والشهادات العليا في العراق، كثرة الألقاب العلمية المقنعة مثل حالات البطالة المقنعة الأخرى وكلها تشترك في التوظيف غير المجدي وعدم تحقيق أي منفعة إقتصادية بتحميل موازنة الدولة العراقية بكلف إضافية.

وقبل البدء لا بد من الإشارة إلى أن المؤسسات العراقية الأكاديمية كالجامعات لا تختلف كثيراً مع باقي دول العالم من ناحية شروط وتعليمات منح اللقب العلمي كالتدرج العلمي وعدد سنوات الخبرة وعدد البحوث العلمية والشهادة المطلوبة كالماجستير لكل لقب علمي من (مدرس مساعد، مدرس، أستاذ مساعد، أستاذ) مع إستثناء شرط شهادة الدكتوراه للقب الأستاذية (البروفيسور)، وبناء على هذه الألقاب العلمية يتم تحديد واجبات ومسؤوليات كل شخص في الجامعة، وكنتيجة لهذه التعليمات والشروط المطبقة أصبح العرف السائد في الجامعات العراقية بتواجد نوعين من حملة لقب الأستاذية (البروفيسور) بإعتبارها محور هذه المقالة وهما كالآتي:

1. الصنف الأول من حملة لقب الأستاذية (البروفيسور) الذين جعل الترقية الهدف النهائي الذي كان يسعى إليه وبمجرد الحصول عليه يتوقف عنده التطوير بحصوله على أعلى مرتبة جامعية، ولذلك ليس من الغريب بأن هذا الصنف لا يواكب مع التكنولوجيا الحديثة ومنها أدوات الذكاء الصناعي وليس له أي تواجد في الحقل المعرفي (عدم وجود إقتباسات لإعماله في كلاريفيت وسكوبس وكوكل سكولار) وغائب عن شبكات التواصل البحثي والأكاديمي (شبكة ريسيرش غيت، أكاديميا دوت إديو، لينكيدإن وغيرها) وعدم تواجد أعمالهم في قواعد البيانات الببليوغرافية المفهرسة مثل (كلاريفيت وسكوبس) وإمكانيات متواضعة في اللغة الانكليزية ويقلل تواجده في العملية التعليمية بإلقاء المحاضرات وعادة يكون إسهاماته البحثية خجولاً إن وجدت. وبالمحصلة أصبح لدينا بروفيسوراً بتفكير قديم غير ملم بالتكنولوجيا وبشكل عام يتراجع أداءه التعليمي والبحثي.  

2. الصنف الثاني من حملة لقب الأستاذية (البروفيسور) الذين يرون بإن هذا اللقب والحصول على أعلى مرتبة جامعية هي البداية في تطوير الذات والبدء بالتواجد في النشر العلمي الأكاديمي، ولذلك ليس من الغريب بأن هذا الصنف يواكب مع التكنولوجيا الحديثة كالذكاء الصناعي ويصبح له أي تواجد في الحقل المعرفي بزيادة عدد الاقتباسات لإعماله في قواعد البيانات مثل كلاريفيت وسكوبس وكوكل سكولار ويهتم بـ (H-index) ويكون متواجداً بكشل فاعل على شبكات التواصل البحثي والأكاديمي (شبكة ريسيرش غيت، أكاديميا دوت إديو، لينكيدإن وغيرها) ويسجل حضور قوي لأعماله في قواعد البيانات الببليوغرافية المفهرسة مثل (كلاريفيت وسكوبس) ويواكب مع أحدث المصادر باللغة الانكليزية ويتنقل بين الجامعات في إلقاء المحاضرات وورش العمل والمؤتمرات المحلية والدولية. وبذلك يصبح لدينا بروفيسوراً بتفكير حديث يواكب التكنولوجيا ويرفع أداءه في العملية التعليمية ويزداد إسهاماته البحث العلمي ويشارك بكثافة في الفعاليات التي تخدم المجتمع من خلال تقديم المشورة للدوائر الحكومية ومنظمات المجتمع المدني.  

ليس من الصعب إثبات الصنفين أعلاه ومعرفة الاختلاف الواضح بينهما وذلك من خلال إجراء دراسة إستطلاعية لبروفايل الحسابات الأكاديمية من حملة لقب البروفيسور في الجامعات العراقية سواء في شبكات التواصل الأكاديمي كشبكة ريسيرش غيت وغيرها ومدى حضور أعمالهم العلمية والبحثية وإقتباساتها من قبل أعمال الآخرين في قواعد البيانات المفرسة ككلاريفيت وسكوبس وكوكل سكولار، لذلك إعتماد مبدأ المساواة يثبت بعدم وجود أي إختلاف بين الصنفين من ناحية الشهادة (الدكتوراه) أو اللقب العلمي والواجبات والامتيازات (تخفيض النصاب ومخصصات اللقب العلمي حسب القانون) على الرغم من ملاحظة وجود الفجوة الكبيرة بينهما من ناحية الكفاءة والأداء على أرض الواقع، في حين إذا تم إعتماد مبدأ العدالة ستختلف الحالة بإعتبار ليس من المنطقي التعامل مع الصنفين بنفس الحقوق والإمتيازات ولا بد من التعامل معهم حسب الأداء والكفاءة والفاعلية في إنجاز العمل من أجل خلق أجواء المنافسة بين حملة لقب البروفيسور لضمان الاستمرارية في المساهمة في خدمة المجتمع وتطوير الطلبة وتعزيز التعاون مع الزملاء الأكاديميين عبر مجتمع البحث العالمي (التعاون والربط الدولي) مع الباحثين الأجانب في البحوث المنشورة وعدم توقف المسيرة البحثية والعلمية.

والمعضلة الكبيرة بأنه ليس من الغريب القول بأن تكون أحد أسباب تخلف دولة نامية مثل العراق هو الإجراءات الإدارية المبنية على مبدأ (المساواة) وليس المبنية على مبدأ (العدل) في المؤسسات الأكاديمية ولا سيما في منح الألقاب العلمية، وقد يكون مبدأ المساواة جائز ومقبول في بعض الهياكل الإدارية للمؤسسات العامة والوزارات الخدمية في تحقيق النجاح وتقديم الخدمة المطلوبة لتحقيق الهدف المنشود فيها، في حين تطبيق نفس المبدأ أي (المساواة) في المؤسسات الأكاديمية كالجامعات وخاصة في مسألة منح الألقاب العلمية وبالأخص لقب الأستاذية (البروفيسور) يعد أمراً غير مقبولاً بإعتبار هذه المبدأ يقضي على مبدأ التنافسية في توفير بيئة جامعية حركية مليئة بالإبداع والإبتكار والأفكار العلمية الجديدة وبناء المهارات العقلية في طرح وإيجاد الأفكار الجديدة الخارجة عن المألوف والقادرة على تقديم الحلول للمشاكل والمعضلات المثبتة على أرض الواقع عن طريق مناقشة وتطوير الآراء الإبداعية الجديدة بشكل مناسب بإعتبار أن السلوك الإبداعي لا يتوارث جينياً.  

إن البدء في التفكير للنهوض من جديد والتخلص من الواقع المرير من العزلة والانطواء على الذات والخروج من النطاق المحلي والالتحاق بالركب الحضاري والمعرفي العالمي من جديد لمعالجة مشكلات المجتمع والتخلص من معضلة وثقافة العمل والبحث من أجل الترقية في الجامعات العراقية والكردستانية، لتحقيق ذلك يتطلب ضرورة إعادة النظر وإجراء تغيرات جذرية في تعليمات منح اللقب العلمي من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق (تعليمات رقم 167 لسنة 2017) وإقليم كردستان (تعليمات رقم 2 لسنة 2021) من أجل ترسيخ وتثبيت ثقافة جديدة مبنية على مبدأ العدالة وليس المساواة في التعامل مع أعلى مرتبة جامعية (البروفيسور)، ولتحقيق مبدأ العدالة يقترح تصنيف حملة لقب البروفيسور في الجامعات العراقية والكوردستانية إلى ثلاثة أنواع في فترة مزاولة عملهم في الجامعة (لا يشمل المتقاعد) وكالآتي:

1. بروفيسور (A) بروفيسور متمرس: يمنح هذا اللقب حسب التعليمات والشروط الحالية المعمول بها في الجامعات العراقية ويتمتع بجميع الحقوق والامتيازات مع الالتزام بالواجبات المترتبة عليه.

2. بروفيسور (B) بروفيسور كفوء: يمنح هذا اللقب حسب تعليمات صارمة جداً يصدره الجهات المختصة لاحقاً بحيث تجعل حملة هذه اللقب لا يتجاوزون عدد أصابع اليد على مستوى العراق ككل، وعلى أن يمنح لهم مخصصات (100%) بدلاً من (50%)، ويمنح اللقب بإحتساب معادلة تتكون من النقاط النقاط الآتية:

· تحقيق النقطة الاولى (بروفيسور متمرس).

· عدد البحوث المنشورة في المجلات المصنفة ضمن الربع الأول (Q1) وعلى أن تكون ضمن المربع وقيمتها أكثر من (90%) في التخصص.

· عدد الاقتباسات وعدد h-index في قواعد البيانات المفهرسة في كلاريفيت وسكوبس حصراً للبحوث المنشورة فقط ضمن المربعين (Q1, Q2).

· عدد البحوث المقييمة للمجلات المفهرسة ضمن المربعين (Q1, Q2) في كلاريفيت وسكوبس حصراً.  

· الاشراف على طلبة الدراسات العليا في الجامعات الدولية المصنفة في قائمة أفضل مئة جامعة على مستوى العالم حسب إحدى التصنيفات العالمية للجامعات مثل (أرو، كيو إس، تايمز).

3. بروفيسور (C) بروفيسور مبدع: يمنح هذا اللقب حسب تعليمات عند الحصول على أي تميز دولي أو محلي لم يسبقه أحد سواء في (التدريس، البحث العلمي، خدمة المجتمع) يصدره الجهات المختصة لاحقاً وليس شرطاً أن يحصل عليها أحد على مستوى العراق ككل وإن إستغرقت عقود من الزمن وعلى أن يمنح لهم مخصصات (300%) بدلاً من (50%) بشرط أن يحقق التميز في إحدى الحالات الآتية:  

· تحقيق النقطة الاولى والثانية (بروفيسور متمرس، بروفيسور كفوء).

· الحصول على الجوائر العلمية العالمية كجائزة النوبل أو أي جائزة أخرى بمستواها في أي مجال أخر.

· الحصول على أي جائزة علمية دولية معترف بها تثمن بقيمة تتجاوز مليون دولار أمريكي.

· الحصول على جائزة دولية بشرط لم يحصل عليه أحد من أقرانه أي عراقي من قبل.

· الحصول على منصب دولي في الهيئات والوكالات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها بشرط لم يشغل هذه المستوى أي عراقي من قبل.

· الحصول على تمويل (كرانت وتبرعات) من منظمات دولية لمشروع خدمي في العراق أو الإنفاق من أمواله الخاصة بما لا يقل عن خمسة ملايين دولار أمريكي.

في الختام، إن الهدف من القيام بتحديث وتعديل تعليمات الترقية العلمية في العراق وإقليم كوردستان أو حتى في الدول العربية بتصنيف لقب الأستاذية (البروفيسور) إلى ثلاثة أنواع وهي (بروفيسور متمرس، بروفيسور كفوء، بروفيسور مبدع) هو لتثبيت مبدأ العدالة بدلاً من مبدأ المساواة في التعامل مع أعلى مرتبة علمية (لقب البروفيسور) على مستوى الدولة، وذلك من أجل تحقيق التنافسية وخلق بيئة أكاديمية تتميز بالإبداع والإبتكار وبناء المهارات العقلية في طرح وإيجاد الأفكار الجديدة وجعل المؤسسة الأكاديمية المحرك الرئيسي الفاعل في بناء وتطوير المجتمع عن طريق التوجه نحو تشجيع ودعم لتحقيق التمييز العلمي على مستوى التخصص العام أو الدقيق كل حسب مجاله، وإن الرؤية حول هذا المطلب بتصنيف لقب البروفيسور هي محاولة جدية وجوهرية لتوفير بيئة علمية أكاديمية أكثر ملاءمة لتحقيق الإبداع والتمييز وهذا ما سيثبته الايام القادمة في المستقبل.