العراق القديم شرع للعدالة الاجتماعية والمساواة قبل الميلاد

العراق القديم شرع للعدالة الاجتماعية والمساواة قبل الميلاد
العراق القديم شرع للعدالة الاجتماعية والمساواة قبل الميلاد

يتغنى الغرب بتحرير الإنسان من الرق والعبودية، وسن القوانين الديمقراطية وحقوق الإنسان. كما تغنى الاتحاد السوفيتي السابق بالاشتراكية وعدالة التوزيع والعدالة الاجتماعية. كلاهما فشل في تحقيق العدالة للإنسان وحمايته من سطوة أصحاب النفوذ الديني والسلطوي والاقتصادي والاجتماعي.

بينما العراق عبر حضاراته القديمة المتعاقبة - السومرية، الأكادية، البابلية، والآشورية - سبق كل أنظمة الحكم الحديثة في الانتصار لحقوق الإنسان وإقرار العدالة عبر سن التشريعات القانونية التي تنظم حقوق الأفراد داخل مجتمعاتها. هذه القوانين ثارت ضد سطوة الكهنة ورجال الدين في نهبهم لحقوق المواطنين، والثورة على فارضي الضرائب التي سلبت أموال الناس وجعلتهم مديونين. قاد الملك أوروكاجينا ثورة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والانتصار لحقوق الضعفاء وأفراد المجتمع كله، ومنع ظلم اليتيم.

نظرت شعوب بلاد الرافدين إلى ملوكها على أنهم نواب عن الآلهة، وبالتالي فهم مطالبون بإقرار قوانين تضمن لهم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة. لذا كانت شعوب العراق القديم تعرف معنى كلمة حرية (أماركي) كما ذكر المؤرخون عبر نص سومري لأقدم وثيقة عرفتها البشرية تؤكد أهمية حقوق الإنسان وحريته.

تعددت جهود الإصلاح الاجتماعي وتحقيق العدالة في حضارات العراق القديم، ومن أبرزها إصلاحات أوروكا، قانون أورنمو، قانون لبت عشتار، وشريعة حمورابي.

 

إصلاحات أوروكا:
هي أول إصلاحات اجتماعية عرفها التاريخ الإنساني وكانت على يد الملك أوروكاجينا في مدينة لوكش بالدولة السومرية حوالي عام 2355 ق.م. كشفت عن هذه الإصلاحات ألواح طينية عام 1878 م. نزع الملك أوروكاجينا ملكية أراضي المعبد، وهي أملاك عامة، من البيت الملكي ووضعها تحت تصرف إله المدينة. كما كف يد الإقطاعية للملك وحاشيته، وجرد كهنة المعابد من الصلاحيات الواسعة التي كانوا يستغلونها باسم الآلهة لمصلحتهم، حيث كانوا يتقاضون أجوراً وضرائب باهظة.

ووفقًا لتشريعاته الإصلاحية، تم تخفيض الضرائب على السكان، وإطلاق سراح من كان مقيدًا بسبب ديونه أو متأخراً عن سداد الضرائب وغراماتها، ومنع الاستيلاء على مال الغير. هذه الإصلاحات كانت أول تشريع بشري مكتوب يطالب بحرية الإنسان. 

يعتبر أوروكاجينا أول مصلح اجتماعي في التاريخ، لأنه سعى إلى إصلاح الأوضاع الاقتصادية المتأزمة في بلاده، وحارب الفساد المستشري فيها بإجراءات عملية سريعة، وإلغاء بعض القوانين المعمول بها لحماية الصالح العام ومنع استغلال الفقراء.

كما حافظ الملك أوروكاجينا على سلامة الأسرة، فمنع بقاء المرأة على ذمة رجلين في وقت واحد، ووضع حدًا لممارسة البغاء حفاظًا على حرمة الأسرة وقدسيتها. تعهد الملك بأنه لن يسمح بأن يقع اليتامى فريسة لظلم الأقوياء.

إصلاحات أوروكاجينا تعتبر من أعظم الإنجازات في تاريخ التشريع، لأنها وضعت الأسس لمفاهيم العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان، التي لازلنا نعتبرها أساسية في عالمنا اليوم.

وسعى الملك أور إلى تحقيق العدالة في التوزيع، حيث حُسِبت الحصص التموينية للسكان من الشعير الصادرة شهريًا للبالغين (30 أو 40 مكيالًا نصف-لتر) وللأطفال (20 مكيالًا). وقد أكدت هذه التوزيعات نصوص مكتوبة بخط مسماري على ألواح طينية، وهذه النصوص محفوظة في المتحف البريطاني في لندن.

في رأيي، يستحق الملك أوروكاجينا أن يُلقب بأبي الفقراء وأبي المصلحين الاجتماعيين في آن واحد، للدور الذي قام به في نصرة المستضعفين والفقراء وتحقيق العدالة الاجتماعية في بداية التاريخ البشري.

 

قانون أورنمو:
يُعد من أقدم القوانين المكتشفة، وضعه مؤسس سلالة أور الثالثة، الملك السومري أورنمو، ويتكون من 31 مادة ويعود إلى القرن 21 ق.م. لقد لقب أورنمو بمنظم العدالة في سومر؛ لأنه وطد العدالة ورفع الظلم والبغضاء. قوانين أورنمو كُتبت على ألواح الطين وتضمنت إقامة العدل والقضاء على الفساد، وأكدت المساواة بين الجميع وحفظ حقوق الضعفاء. كما عالجت القوانين جملة من المسائل الاجتماعية كالطلاق، ووضعت عقوبات لعدد من المسائل الجنائية كالقتل والسرقة والزنا والاغتصاب.

من بعض ما جاء في قانون أورنمو: إذا ارتكب رجل جريمة قتل، فيجب أن يعاقب بالموت. إذا ارتكب رجل سرقة، فيجب أن يعاقب بالموت. إذا ارتكب رجل عملية خطف، فسُيجبر على دفع 15 شيكلاً من الفضة. إذا تزوج أحد العبيد امرأة من العبيد، ونالت الأخيرة حريتها، فإن زوجها لا ينال حريته. إذا أقدم شخص على اغتصاب زوجة رجل آخر، فيجب أن يعاقب بالموت. إذا أقدمت امرأة على خيانة زوجها مع رجل آخر، فستُذبح هذه الزوجة الخائنة، بينما لن يُمسّ بعشيقها. إذا أقدم رجل على اغتصاب أحد العبيد المملوكة لرجل آخر، فعليه أن يدفع تعويضًا قدره 5 شيكلات من الفضة. إذا طلق رجل زوجته الأولى فعليه أن يدفع لها 1 منا من الفضة (1 منا = 60 شيكلاً).

 

قانون لبت عشتار:
يعود هذا القانون إلى بداية العهد البابلي القديم، وأصدره الملك لبت عشتار سلالة إيسن. يُعد هذا القانون ثاني أقدم قانون في تاريخ البشرية، تضمن 37 مادة تعالج عددًا من القضايا الاقتصادية والاجتماعية وشؤون الأسرة والرقيق. من بين نصوص هذا القانون نص المادة 18 التي تنص على أنه "لو أن سيدًا أو سيدة صاحب عقار تكاسل في دفع ضريبة العقار، وقام رجل غريب بتحمل دفعها، لا تُنزع ملكية العقار منه لمدة ثلاث سنوات، وبعدها يتملك من تحمل ضريبة العقار، ولا يحق لمالك العقار الأسبق المطالبة به.

 

قانون مملكة إشنونا:
مملكة أشنونا هي إحدى الممالك الأمورية التي قامت على أنقاض سلالة أور الثالثة. يُعد هذا القانون من أقدم القوانين التي ضمنت حقوق الإنسان في المجتمعات القديمة، إذ يسبق قانون حمورابي بـ 50 سنة، وتصل مواد هذا القانون إلى 70 مادة قانونية. عالجت هذه المواد مواضيع عديدة منها الأسرة وحقوق الزوجة والزوج وتنظيم العقود القانونية والأحوال الشخصية وأمور العبيد والأضرار بالحيوانات وغيرها من العقوبات المقررة على مخالفة هذه العقود.

 

شريعة حمورابي:
أصدرها الملك حمورابي أشهر ملوك العهد البابلي. كُتبت على مسلة كبيرة من الحجر الأسود، وتُعد وثيقة قانونية مهمة في حقوق الإنسان والحريات الأساسية. حددت شريعة حمورابي قواعد العدل ورفع الظلم عن الأفراد، وتألفت من 282 مادة قانونية مدونة، منها 30 مادة تعالج شؤون المرأة والأسرة من زواج وطلاق وإرث وتبني.

العراق بحضارته العريقة سبق العالم كله في إقرار العدالة والمساواة وحقوق الإنسان.