وقفة مع وطنية المرجعية الكوردية في سوريا
لست أبالغ عندما أقول بأن الراحل عبد الحميد درويش كان يمثل المرجعية الكردية في سوريا فقد كان كذلك بحق ولفترة طويلة من الزمن ، ويشهد له بذلك كل من عرفه تقريباً من شخصيات وطنية سياسية واجتماعية .
يقول الشيخ عبد العزيز طراد الملحم (قبيلة عنزة) : " عبد الحميد درويش رجل الأخلاق والتواضع ، وخلق لدي انطباع عميق بأنه جدير بأن يكون ممثلاً لشعبه " .
بكل موضوعية إن الحديث عن شخصية قيادية ولها تاريخ وباع طويل مثل الأستاذ عبد الحميد درويش يحتاج منا إعداد دراسة خاصة تتناول جوانب حياته الشخصية والعامة حتى نستطيع أن نقدم للقارئ ما يساعده في معرفة هذه الشخصية ، وهذا ما جعلني أتوقف في هذا المقال عند إحدى الجزئيات فقط ، والمتعلقة بوطنية هذا الرجل .
حتى وفاة الراحل عبد الحميد درويش في 24/10/2019 لم يكن أحد يستطيع التشكيك بالتزامه القومي ، و كان اعتداله في الموازنة بين الوطنية والقومية محط إعجاب الكثير من السوريين .
في بدايات عمله السياسي ( منتصف الخمسينيات ) كان طبيعياً تبنيه للأفكار القومية بشكل أكبر ( عصر القوميات ) ، ولكن الذكاء السياسي كان يكمن في مرونته و قدرته على التكيف مع الأفكار الجديدة والحداثة وتقبل الآخر ، فمع تراجع الشعارات القومية شيئاً فشيئاً وارتفاع الأصوات الوطنية كان درويش من أوائل من ادرك بأن قضاياه العادلة تحتاج إلى حلول وطنية فعالة ، وليس العيش في عالم الشعارات الذي من الصعب جداً أن يحقق له ولشعبه شيئاً في المستقبل القريب .
إن إدراك عبد الحميد درويش لأهمية البعد الوطني لقضاياه لم يقف عند حدود الإدراك فقط ، بل العمل ولعقود طويلة بنهج وطني معتدل لا ينكر الالتزام والهوية القومية ، وهو ما عجز و يعجز عن فعله بعض الساسة الكرد حتى الآن فتراهم إما قد أنكروا كل ما له علاقة بالقومية أو تطرفوا وتعصبوا لها بشكل مبالغ فيه ، أما عبد الحميد درويش ففي نفس الوقت الذي كان يمتلك فيه علاقات طيبة مع كل المكونات السورية ، وعلاقات ممتازة مع معظم احزاب الحركة الكردية في سوريا ، فقد كان لديه علاقات كردستانية مميزة ونادرة مع العديد من الأطراف الكردية في العراق و تركيا وإيران .. الخ .
كان عبد الحميد درويش عالماً بجغرافية سوريا و واعياً لثقافتها وتاريخها ، بل و باحثاً في تاريخها أيضاً فهو من أصدر كراس ( تاريخ أكراد الجزيرة) عام 1998 رداً منه عل كتابات الدكتور سهيل زكار ، وهذا برأيي هو الذي ساعده كثيراً ليكون وطنياً بامتياز ، فمن المستحيل أن يكون السياسي وطنياً بامتياز وهو جاهل لجغرافية وتاريخ وثقافة بلده ، كما أنه يستحيل ألا يكون السياسي وطنياً وهو على هذه الدرجة من الثقافة والعلم بتاريخ وجغرافية بلده ، وهذا بكل تأكيد ما جعل عبد الحميد درويش مؤثراً في كل ما شهده من الأحداث والمسائل الكردية وخاصة الملفات الساخنة المتعلقة بالكرد ( الإحصاء ، الحزام ، أحداث 2004 ، الأزمة السورية .. الخ ) .
إن تنبه عبد الحميد درويش في وقت مبكر للبعد الوطني في المسائل الكردية جعله ابرز السياسيين الكرد في سوريا ، و جعل رؤية حزبه تتسيد المشهد في الحركة الكردية لعقود ، وأبعد الريبة والشك عن هذه الأحزاب الكردية التي كانت صورتها في أذهان باقي المكونات السورية ( العرب خاصة ) مرتبطة بالانفصالية والعدوانية .. الخ .
يقول الشيخ نواف راغب البشير (قبيلة بكارة الزور) : " عبد الحميد درويش من الشخصيات المحورية والهامة في كسر الحاجز الوهمي بين الأشقاء في المنطقة من كرد وعرب ، وأسهم في تحديد البوصلة السياسية الكردية بدقة وصياغة الخطاب الديمقراطي المعتدل .
أبرزت العلاقات الأخوية و صداقات عبد الحميد درويش مع جميع مكونات الشعب السوري حرص هذا السياسي وغيرته على البيت السوري و ترويجه دائماً لجزئية الحفاظ على التراث الثقافي السوري والهوية الوطنية ، و تعزيز القيم والتقاليد التي تميز سوريا عن غيرها ، وكان وعيه الوطني هو الملهم لسياسته الواقعية والداعية للتعايش ونبذ الإقصاء والإلغاء والصدام ، أما دعمه الدائم للانتماء الوطني فهو ما جعله منفرداً و متميزاً عن غيره لأنه يعي سوريا بشكل عام والجزيرة بشكل خاص .
عشق عبد الحميد درويش سوريا مثل معظم الكرد وأعلن ذلك دون خوف من التخوين ، وأنجح بشكل ملحوظ انفتاح الكرد على باقي المكونات السورية رغم محاربة بعض الانعزاليين الكرد له ، و تجلى صدقه الوطني في دفاعه المستمر عن الاعتدال واللامغالاة وعدم قبوله الخضوع لأجندات خارجية موضوعة من أطراف لا تعي تماماً حساسية الوضع السوري ووضع الكرد السوريين ولا تراعي خصائصهم ، وإنما تريد استخدامهم فقط .
أشاع عبد الحميد درويش ثقافة العمل المشترك في كل المجالات الاجتماعية والفنية والاقتصادية وخاصة السياسية ، وأبرز كثيراً بأن المواطنة السورية و شعار الأخوة العربية الكردية شعار استراتيجي في الماضي والحاضر والمستقبل ، وأن ضيق الأفق فقط هو ما يمنع البعض من قبول هذا الشعار الموضوع بمعرفة و دراية وحكمة من كبار الوطنيين في سوريا ، و ذلك ببساطة لأنه لا خيار أمامنا سوى هذه الأخوة التي عمادها العيش المشترك .
لمع عبد الحميد درويش في مجلس الشعب السوري ، واستطاع إيصال صوت الكرد ، و تكوين علاقات واسعة وقوية مع مختلف أطياف الشعب السوري ، و هذا ما تراه جلياً في بقاء اسمه اسماً لامعاً لدى هذه الأوساط كمتحدث باسم الكرد رغم تواجد أكثر من عضو كردي معه في دورته تلك بمجلس الشعب أو حتى في دورات أخرى ، ولكن لم تظهر شخصياتهم بشكل لافت لانغلاقهم إلى حد ما على العكس من درويش الذي كانت جهوده تصب في الصالح العام السوري دون تمييز أو تحيز .
وكان سعيه لتحقيق التوازن والمساهمة في التنمية وتعزيز العدالة الاجتماعية في منطقة الجزيرة نابع عن حكمة وتفكير استراتيجي و تقدير صحيح للوضع العام في سوريا وللجزيرة السورية بشكل خاص ، و قد أثمرت مطالبه العادلة بأسلوبه الأنيق عن كسب أنصار وأصدقاء لقضيته الكردية ، و هذا ما يُحسب له فقد كان ضرورياً التعبير عن مصداقية و حسن النوايا لدى الكرد من خلال الالتزام بخطاب سياسي عقلاني يظهر فيه حب الكرد للجوار ، وأساليبه السلمية والديمقراطية التي يستحيل أن تضر بأحد ، بل وتنفع جميع السوريين عرباً و كرداً وغيرهم .
أرسى عبد الحميد درويش بسياسته المرنة و تعامله مع الغير ضمن ذهنيته المتنورة وفكره الوطني حوارات المعرفة بين الثقافات المختلفة ، و رسخ قيم التسامح و مبادئ التفاهم ، و زاد الانفتاح بين جميع القوى والشخصيات الوطنية ، و عزز ثقافة عدم قبول المشاركة على حساب الغير إيماناً بمقولة تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين ، وقد نجح بأساليب ديمقراطية بإيصال صوت غاياته النبيلة للجميع من إرساء للعدالة واعتراف بالآخر للوصول بعدها لفضاء يحتضن الجميع بلا استثناء و يتفق عليه الكل المختلف بتوجهاته ، وهو ما طور التشاورات المكثفة والنقاشات المستفيضة والحوارات الوطنية التي كان يدعو لها طيلة حياته .
لا يمكن حصر الجلسات والندوات والأعمال التي دعا أو شارك بها عبد الحميد درويش في حياته السياسية والاجتماعية ، ولكن ما يعرفه القاصي والداني في سوريا أن عبد الحميد درويش أسهم بشكل كبير في تعزيز الوحدة الوطنية في سوريا بشكل عام والجزيرة السورية بشكل خاص من خلال التواصل الفعال مع جميع الأطراف و بناء الجسور والعلاقات بين مختلف الفئات في المجتمع والدعوات المستمرة للتعايش السلمي .
وفي ذلك يقول الشيخ عبد الوهاب عبد الكريم العيسى (قبيلة بكارة الجبل) : " استطاع عبد الحميد درويش إلى حد كبير في السنوات الأخيرة أن يضيق الهوة بينه و بين الآخرين ، بل نجح في ردمها مع بعض الأطراف ، ومد الجسور مع كل مكونات المجتمع ، ومع ذلك بقي صلباً و متمسكاً بالأهداف والمبادئ والقيم التي عاش وناضل من أجلها " .
في دمشق و في مطلع عام 2018 شعرتُ بحجم الوطنية والتأثير الوطني لهذا السياسي الكردي وأنا أسمع اسمه يتردد في بعض الجلسات التي ضمت شخصيات وطنية سورية بارزة وهي تتحدث عن وطنيته و تُكثف الاتصالات معه بغية إقناعه في حضور مؤتمر الحوار الوطني في روسيا (سوتشي) الذي كان رافضاً لحضوره حينها تضامناً منه كما يرى مع مدينة عفرين .
مع الأسف لم يستطع مؤتمر الحوار الوطني (سوتشي) تحقيق جميع النتائج المرجوة منه ، و هو ما أعتقد ( و ربما أكون مخطئاً ) دافعاً أساسياً لجعل عبد الحميد درويش يسعى و بمسؤولية وطنية وجهود كبيرة في عامه الأخير إلى عقد مؤتمر حوار وطني شامل يضم كل أطياف الشعب السوري و يقدم حلولاً فعالة .
آمن كثير من السوريين بفرصة نجاح المؤتمر الوطني الذي سيعقده عبد الحميد درويش ، وذلك بسبب ثقتهم بوطنية هذا الرجل وإحساسه بالمسؤولية الوطنية ، ولكن شاءت الأقدار أن يرحل عبد الحميد درويش قبل أن يعقد ذلك المؤتمر ، ولا اعتراض على حكم الله .
رحل عبد الحميد درويش وهو وجه وطني بارز وكبير (كما يصفه المطران أوسطاثيوس متى روهم) ، وهو الجزء الفعال في تحقيق الوحدة الوطنية في الجزيرة السورية (كما يقول الرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم و بطريرك أنطاكية وسائر المشرق أغناطيوس زكا الأول عيواص) .
وفي الختام أقول بأن التاريخ السوري مليء بالشخصيات الكردية الوطنية التي برزت كشخصيات عسكرية أو سياسية أو أدبية أو فنية أو .. الخ ، وعبد الحميد درويش كان شخصية وطنية بامتياز ، وله بصمة واضحة لا تُنسى من ذاكرتنا السورية ، و سيبقى هذا الرجل علماً من أعلام الجزيرة السورية الذين ليس من السهل أن يجود علينا الزمان بمثلهم ، وأن يتكرر ذلك المشهد الوطني المؤثر والمعبر لشيوخ بعض القبائل العربية الذين أكدوا بأنهم كانوا يتقبلون التعازي من الأصدقاء والأهل في الجزيرة بوفاة هذا السياسي الكردي الوطني ، و توج ذلك المشهد الوطني بشكل ملفت الشيخ حميدي دهام الهادي الجربا (قبيلة شمر) بإقامة حفل تأبين خاص لهذا السياسي الوطني .