المشهد السياسي وفق الصراع الكنسي

المشهد السياسي وفق الصراع الكنسي
المشهد السياسي وفق الصراع الكنسي

يرى البعض من الخبراء والمحللين أن الصراع العالمي ما بين الشرق والغرب عائد للصراع الكنسي بينهم ، وأن الكنائس بمرجعياتها هي من تعمل على خلط الأوراق بين الحين والآخر ، وهي لاختلاف غاياتها برأيي تقف مع مصالح أخرى وراء الحروب والنزاعات وخاصة في الشرق الأوسط من أجل رسم خارطة جديدة خالية من المسيحيين ، أو يتم توزيع المسيحيين فيها ومناطق نفوذهم بطريقة أخرى .

يقول سام إليس (Sam Ellis) : معظم الغربيين يعتقدون أن الانقسام بين السنة والشيعة مشابه للكاثوليك والبروتستانت ، وهذا التصور خاطئ فالانقسام بين المسيحيين أشد عنفاً .

انشقت الكنيسة الكاثوليكية عن الأرثوذكسية الشرقية عام 1054م ( بسبب اختلاف قانون الإيمان ، فالكاثوليكية ترى أن الروح القدس ينبثق من الأب والابن في حين تراه الأرثوذكسية ينبثق من الأب فقط ) ، والكاثوليكية اليوم تعتبر نفسها الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية ، ولكن تختلف القوانين اختلاف كبير بين كنائسها في الشرق والغرب باختلاف القوميات والطوائف وحتى الأسرار السبعة لها تختلف في طقوسها وتطبيقها ( سر المعمودية وسر التثبيت "الميرون" وسر القربان المقدس "الأفخاريستا" وسر التوبة "الاعتراف" وسر مسحة المرض وسر الكهنوت وسر الزواج ) ، وكذلك الأناجيل رغم أنها تعتمد في الإطار العام على عهدين للإنجيل : ( قديم : 46 سفر عن قصة الخلق والأنبياء ما قبل المسيح ، وجديد : عن يسوع المسيح وتعاليمه والرسل وسفر رؤية يوحنا ) ، وهذا بشكل عام أما بشكل خاص فقد أصبح معروفاً تماسك الأرثوذكسية بشكل أكبر ، وضعف الكاثوليكية في المنطقة بشكل ملحوظ ، واستمرار تماسكها فقط في غرب أوربا وأمريكا وأمريكا الجنوبية ، وحاولت زيارات بابا الفاتيكان الأخيرة للمنطقة والعراق إظهار تماسك الكنيسة الكاثوليكية وارتباط كنائسها ببعضها ، وهذا صحيح إذا ما اعتبرنا عامل التنسيق فيما بينهم هو الأساس الوحيد للتماسك ، فهي على درجة جيدة من التنسيق ولكن لكل منها استقلاليتها وطقوسها وتنظيماتها ، وهو ما يمكن ملاحظته عند مقارنة الطقوس والقوانين والأعمال على سبيل المثال لكل من كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك ( أكبر كنيسة كاثوليكية في سوريا ) مع الكنيسة الكلدانية ( أكبر كنيسة كاثوليكية في العراق ) ، وكذلك لدى باقي كبرى الكنائس الكاثوليكية كالمارونية والسريانية والأرمنية والقبطية ..الخ ، حيث نجد لكل طائفة في إحدى الكنائس الكاثوليكية قانونها الخاص ( خاصة بما يتعلق بالميراث والأموال الشخصية والأحوال والطلاق .. الخ ) وإضافة لاختلافات عقائية جوهرية مثل زواج رجال الدين غير المسموح بشكل عام لدى الكنائس الكاثوليكية نجده مسموحا لدى بعض الكنائس الشرقية خاصة ، وأيضا بعض القضايا ذات التأثير الإعلامي والضجة مثل التحرش الجنسي بالأطفال والذي شاع لدى كنائس الكاثوليك أكثر من الأرثوذكس ، وكذلك قضايا المثلية الجنسية التي لم تستطع الكاثوليكية مواجهتها كدين مثل الأرثوذكسية ، أو وجود المطهر ( المكان الذي تذهب إليه نفوس المؤمنين الخطأة ) وما شابهها من القضايا الجدلية في الكنيسة .

كل ما سبق يبين تماسك الأرثوذكسية وقوتها سياسياً على حساب الكاثوليكية التي تعاني من انشقاقات لا تتوقف إضافة لانخفاض نسبة رجال الدين والمتدينين لدى الكاثوليكية بشكل عام ، وحتى في حال عدم غلبة الأرثوذكسية بالمنطقة فإن الكاثوليكية الشرقية ستكون مستقلة عن الغربية بشكل شبه مطلق ( وهو ما تسعى له غالبا الأرثوذكسية ) ، وبالتالي يمكن القول باختصار أن روسيا ستتفوق بالعديد من النقاط على الغرب فيما يخص ميادين الدين والكنيسة وتجنيدهم للمصالح السياسية .

وبعيداً عن الأرثوذكس والبروتستانت والكاثوليك في باقي أنحاء العالم ، فالصراع ربما يكون في أشد حالاته عنفاً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، وبعد الاطلاع والمتابعة نجد أن الأمازيغ والأقباط والعرب والكرد والترك وو ..الخ غير مهمين كقوميات ، ولهذا يتم التركيز في سوريا ولبنان والعراق على الآشوريين والأرمن والكلدان وهذه القوميات القريبة منها لأن معتنقي المسيحية منها قد يكونون مؤمنين بها بقوة بشكل أكبر من باقي القوميات (بشكل عام) ، وهنا تختلف وتتعدد التوجهات الرئيسية ويمكن أن نحصر المهم منها في بعض النقاط مثل توجيه الأحزاب اليمينية لإعادة اللاجئين (وبالعكس محاولات توطين اللاجئين وتجنيسهم) ، وتنصير اللاجئين من غير المسيحيين وإقناعهم باقتناع المسيحية (وبالعكس محاولات عدم حرفهم عن دياناتهم كالإسلام مثلا) ، والتغيير الديموغرافي لتوزع السنة والشيعة بما يخدم تهجير أو إعادة المسيحيين للمناطق المتاخمة لحدودهم ، وإخلاء الشرق الأوسط من المسيحيين (وبالعكس محاولات إغرائهم بالبقاء) ، وسياسات صندوق النقد الدولي ( مما يذكر عن تهجير للمسيحيين وإيقاف كل ما له علاقة بعمليات التنمية أو كرأي معاكس وهو دعم لقضايا الجوع وإعادة الإعمار لدخول المنظمات التبشيرية بشكل منظم تحت غطاء منظمات وشركات .. الخ) .

وعليه فبعد تفريغ سوريا من نسبة مرتفعة من المسيحيين أصبح الضغط أكبر بدرجة أولى على لبنان والعراق اللذان يجري تفريغهما أيضا منذ زمن لأهمية الشام ووادي الرافدين بالنسبة للتاريخ المسيحي بشكل عام وبدرجة ثانية مصر وبعض دول أفريقيا ، وطبعا يبقى الشعب المسيحي وحتى بعض الكنائس ورجالها هم الضحية الأكبر لهذا الصراع ، والمهم هنا أنه رغم المحاولات الغربية بتفريغ المنطقة في بعض الأحيان إلا أن الأرثوذكسية تفوز ببقاء العديد من الكنائس الكاثوليكية في المنطقة وبأجندات جديدة تتوافق مع سياسات الكنيسة الأرثوذكسية دون اتباعها بشكل مباشر مثل استمرار استخدام المسيحيين كورقة ضغط وورقة مزايدات سياسية لكل الأطراف ورفض السواد الأعظم من المسيحيين المتواجدين للسياسات الغربية وتغير في العقائد الدينية التي تضمن الولاء المجاني والدعم والتضحية والتجنيد للأفراد ، إضافة إلى تناقص عدد رجال الدين بشكل كبير وانحراف بعضهم عن الالتزام الكامل ونشر أفكار بعيدة عن المسيحية على شكل أفكار تنمية بشرية وما شابه ، أما الهجرة المسيحية فإنها تحت السيطرة بشكل كامل ويجري خفض أو زيادة هذه الهجرة تبعاً لمتطلبات كل مرحلة من خلال زيادة عدد المنظمات التي تزور المنطقة بحجج الأيتام والكفالة للمسيحيين وذلك حسب المراد من تثبيت للقواعد المسيحية أو تهجيرها ، وكذلك الحفاظ على نسق ثابت من التبشير لخلق قواعد بديلة بعد تهجير المسيحيين الأصليين ، والتنسيق بشكل دوري مع القوى الإسلامية على الأرض .

الخلاصة أعتقد أن روسيا في موقف أفضل من الغرب لأن  نهج الأرثوذكسية بشكل عام وفي روسيا بشكل خاص لا يختلف عن النهج الروسي ، ويتفق مع السياسات العامة والتوجهات العامة ، على العكس تماما من الكاثوليكية التي يزداد الشرخ بينها وبين النموذج الغربي الديمقراطي لدرجة استبدال قيم الكنيسة الكاثوليكية ومبادئها بمبادئ الإنسانية والديمقراطية والحريات العامة ، والموضوع رغم السرية التي تحيط به وتجنب وابتعاد الكُتاب عنه وخوف الصحافة الخوض فيه فهو ليس لشغل الرأي العام والتأثير به ، أو كسب أطراف يمينية للتحالفات القادمة ، وليس اختلاف في وجهات النظر وتقديرها لما قد يلحق بالمسيحيين من أعمال عنف متزايدة بوجود الجماعات الإرهابية التي تهدد الأقليات الدينية ( ففي سوريا مثلا لماذا لم يحصل الدروز أو العلويون أو الإيزيديون على نفس القدر من الاهتمام أو الحماية المزعومة وهم كانوا أكثر عرضة للتطرف في وقت من الأوقات !!؟؟ ) ، وزبدة القول بأن الموضوع بعيد عن الحماية المنشودة للأفراد المسيحيين وليس سوى خلافاً كنسياً ربما تصدق تكهنات بعض الخبراء على أنه أساس لكل النزاعات الحاصلة في الشرق الأوسط .

إن الدور الذي يلعبه هذا الصراع الكنسي في تغيير المعادلات بالمنطقة هو ما ينبه لأهمية هذا الصراع الذي قد يتم حسمه مستقبلا لترجح الكفة الأرثوذكسية وبالتالي  ترجح كفة روسيا لتفرض أجنداتها السياسية كما تشاء في المنطقة .

ختام القول : أظهرت استطلاعات الرأي في أوربا أنه بعد كورونا كانت إيطاليا وإسبانيا الأكثر تدينا بالمقارنة مع السابق ، وهذا تزامن على سبيل المثال مع أعلى معدل نمو للاقتصادين الإيطالي والإسباني في منطقة اليورو عموما في الربعين الأول والثاني من عام 2021 ، وهذا ما يحتاج أبحاثا ومقالات منفصلة لتوضيح ما يمكن أن تقدمه ربما الديانة الروسية والأرثوذكسية من نهضة اقتصادية لروسيا في قادم السنوات وهو ما سيلعب دوراً بارزاً بكل تأكيد في صراع القطبين .

كان الله في عون الفقراء المسيحيين الذين لا حول لهم ولا قوة ، ولا علاقة لهم بكل ما يحاك من مؤامرات عليهم في الشرق والغرب مثل ما حيك ويحاك للمسلمين وغيرهم من شخصيات ومرجعيات أخذت من الدين وتراً تعزف عليه ألحان مصالحها السياسية .