كوردستان: حين تنطق الأرض بحقيقة التاريخ

كوردستان: حين تنطق الأرض بحقيقة التاريخ
كوردستان: حين تنطق الأرض بحقيقة التاريخ

حين ننظر إلى خريطة العالم ، نرى تضاريس ثابتة: جبال شاهقة، سهول شاسعة، أنهار تروي الأرض، وبحار تلامس الشواطئ في صمت. لكن الحقيقة التي لا يدركها كثيرون أن هذه التضاريس لم تكن هنا دائماً كما نراها اليوم ، الأرض نفسها مرت بتحولات عميقة، وتغيرت معالمها على مدى ملايين السنين.

في العراق السؤال الذي يثير الفضول: من كان أولاً؟ هل كانت جبال كردستان الشامخة، أم سهول جنوب العراق التي احتضنت أعظم حضارات التاريخ؟

لنعود بالزمن إلى ملايين السنين، وتحديداً إلى العصر الميوسيني، الذي امتد من حوالي 23 مليون إلى 5.3 مليون سنة مضت. في تلك الحقبة، لم تكن هناك جبال زاغروس، ولا سهول العراق الخصبة. كل هذه المساحات كانت جزءاً من بحر شاسع يُعرف باسم بحر تيشس، وهو بحر قديم غطى أجزاء واسعة من الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا.

في جنوب العراق، كانت المياه تسيطر بالكامل على المنطقة. لم يكن هناك ما يُعرف اليوم بالأهوار أو دجلة والفرات، بل كان كل شيء جزءاً من قاع البحر. هذه المنطقة ظلت مغمورة حتى بدأت عمليات الترسيب الرسوبي بفعل تراجع المياه وتراكم الطمي، مما شكل لاحقاً السهول الخصبة التي احتضنت حضارات سومر وبابل وآشور.

أما في كردستان، فالقصة مختلفة تماماً ، كانت كردستان أيضاً جزءاً من بحر تيشس، لكن مع مرور الوقت، بدأت المنطقة تشهد تغييرات جيولوجية عميقة وعظيمة ، نتيجة تصادم الصفيحة العربية مع الصفيحة الأوراسية، بدأت الأرض ترتفع تدريجياً ، مما أدى إلى ولادة جبال زاغروس وطوروس. هذا الارتفاع الجيولوجي جعل كردستان تتحرر من قاع البحر قبل جنوب العراق، لتتحول إلى منطقة جبلية شاهقة، بينما بقي جنوب العراق منخفضًا تغمره المياه لفترة أطول.

مع انتهاء العصر الميوسيني وبداية العصر البليوسيني (قبل 5.3 إلى 2.6 مليون سنة)، بدأت ملامح كردستان تتضح أكثر. أصبحت المنطقة سلسلة جبلية وعرة، تضم ودياناً عميقة وأنهاراً جارية مثل الزاب الكبير والصغير. أما جنوب العراق، فقد بدأ يظهر كسهل رسوبي واسع، تغذيه الأنهار التي أصبحت شريان الحياة لحضارات المستقبل.

هذا الاختلاف الجيولوجي ترك أثراً عميقاً على تاريخ الإنسان. في كردستان، ساهمت التضاريس الجبلية في خلق مجتمعات تعتمد على الزراعة والرعي، حيث سهلت الأنهار الصغيرة والمرتفعات حماية القرى من الغزوات. بينما في جنوب العراق، ساعدت السهول الواسعة والأنهار الكبرى على تطور حضارات كبرى مثل السومريين والبابليين، الذين استفادوا من الأراضي الخصبة لبناء المدن العظيمة والأنظمة الزراعية المتقدمة.

إذن، من كان أولاً؟

إذا تحدثنا عن الأرض والتضاريس، فقد كانت كردستان أول من تحرر من أعماق بحر تيشس وارتفعت شامخة إلى السماء والمفارقة هنا تكمن في أن الجبال القديمة كانت شاهدة صامتة على ولادة حضارات السهول، حيث ارتفعت الصخور قبل أن يخط الإنسان أول سطر في ألواح الطين.

هذه الرحلة عبر الزمن تكشف كيف أن الأرض ليست مجرد مسرح صامت للتاريخ، بل هي بحد ذاتها بطل رئيسي في قصة البشرية. الجبال والأنهار والسهول ليست خلفية لأحداثنا فقط، بل هي من شكلت هذه الأحداث وأثرت على مسارات الحضارات.

ففي النهاية، السؤال ليس فقط من كان أولاً؟ بل أيضاً : كيف شكلت هذه البداية طبيعة كل شعب وحضارة؟ ربما لا تكون الإجابة واضحة تماماً ، لكنها دعوة للتأمل في أن التاريخ يبدأ أحياناً قبل أن يُولد الإنسان، في قلب الصخور وأعماق البحار التي كانت يومًا ما تغطي كل شيء.

لذا تُعتبر منطقة كردستان في شمال العراق موطناً لأقدم الاستيطان البشري، حيث عُثر على آثار إنسان النياندرتال في كهف شانيدر قبل أكثر من 50,000 سنة، وسكنها الهوريون والغوتيون لاحقاً في الجنوب، برز السومريون حوالي 4500 ق.م، مؤسسين أول حضارة مدنية متقدمة.

عالم الآثار الأمريكي رالف سوليكي في خمسينيات القرن العشرين.

عثر على الهياكل البشرية التي تعبر بمثابة أدلة على طقوس دفن بدائية، مما يشير إلى أن النياندرتال كانوا يمتلكون نوعاً من الوعي الاجتماعي والممارسات الرمزية. هذا الاكتشاف يعتبر من أهم الأدلة على وجود الإنسان القديم في منطقة كردستان، ويُعد أحد أقدم مواقع الاستيطان البشري في غرب آسيا.