مظفر مزوري
صحفي في مؤسسة كوردستان24
أيها العالم نحن هنا ونستحق الحرية.. صوت الارض العتيق وملحمة تقرير المصير

من بين ثنايا التاريخ المليء بالمعاناة والنضال، يبرز استفتاء إقليم كوردستان كشاهد على إرادة شعب لم ييأس يومًا من حقه في تقرير مصيره. إنه ليس مجرد تصويت على ورقة، بل هو تعبير عميق عن هوية وطموح، وتتويج لقرون من التضحيات التي قدمها شعب كوردستان في سبيل حريته وكرامته.
لقد عانى الشعب الكوردي، على مر التاريخ، من التجاهل والاضطهاد والتقسيم. وُزعوا قسرًا على أربع دول، وحُرموا من حقهم في تأسيس دولتهم الخاصة. وشهدوا حملات إبادة جماعية، وتشريد وقصف بالاسلحة الكيمياوية، ولكنهم لم يستسلموا قط.
كل قطرة دم سالت، وكل دمعة انحدرت، رسخت في الذاكرة الجمعية الكوردية قناعة راسخة بأن السبيل الوحيد لضمان عدم تكرار المآسي هو بناء دولة كوردستان التي تحميهم وتصون حقوقهم.
إن قرار إجراء الاستفتاء لم يأتِ من فراغ، بل كان نتيجة تراكمات تاريخية، وتجارب مريرة، وتوق مستمر للعدالة. إنه حق طبيعي لأي شعب في العالم يريد ان يقرر مصيره بنفسه. بالنسبة للكورد، لم يكن هذا مجرد خيار سياسي، بل كان ضرورة وجودية. فقد أثبتت التجارب المتكررة أن الأنظمة المركزية في الدول التي وُزعوا عليها لم تستطع، أو لم ترغب، في تلبية تطلعاتهم أو حماية وجودهم.
الاستفتاء هو وسيلة سلمية وديمقراطية للتعبير عن إرادة الشعوب. هو خطوة حضارية تمنح الأفراد الفرصة للإدلاء بأصواتهم حول مستقبلهم. ومن منظور كوردي، كان هذا التصويت بمثابة انتصار للديمقراطية على القمع، ولصوت الشعب على الإملاءات الخارجية.
في ذلك الصباحِ الذي انبلج على سهول كوردستان وجبالها، لم تكن الشمس مجرد كرة من نور تشرق في الأفق. كانت نبضًا آخر، همسة قديمة، تتردد في الوديان وتتسلل عبرَ قمم الجبال الشامخة، حاملة معها عبق قرون من الانتظار. كانت الأرضُ تتنفس بترقب، والرياحُ تهمسُ حكايات من الماضي، عن أجداد حلموا بهذا اليوم، وعن أمهات رضّعن أطفالهن حليب الحرية ممزوجًا بمرارة القهر.
في كلِّ قرية ومدينة، كانت الطوابيرُ تتشكلُ ببطء مهيبٍ، لا تحمل في طياتها عجلة الحياة اليومية، بل وقار اللحظةِ التاريخية. رجال ونساء، شيوخ وأطفال، كل واحد منهم يحمل في عينيه قصة، وفي قلبه أمنية. كانت وجوههم تحكي عن "أنفالٍ" سرق الأحبة، وعن "حلبجة" التي وشمت أرواحهم بمرارة الغازِ الكيماوي، وعن ليال طوال قضيت في التشرد والغربة. لكنها كانت تحكي أيضًا عن صمود لا يُقهر، عن إيمان عميق بالعدالة، وعن شعلة الأمل التي لم تنطفئ قط.
في قلب الجبال الشاهقة، حيثُ التاريخ ينسج قصصَه على صخور الزمن، وحيثُ دماء الأجداد تروي تراب الأرض، هناكَ يكمنُ حلم أزليٌّ كزرقةِ السماءِ، وراسخ كجذور أشجار البلوط، حلمُ شعبٍ لم يعرفِ الاستسلام، شعب حفر اسمه في سجلات الصمود، وتزينت راياتهُ بألوان الأمل والدماء.
في ذلك اليوم، يومَ الخامس والعشرينَ من سبتمبر 2017، تفتحت زهورُ الأماني على أغصان السنين، وتراقصت قلوب على إيقاع الحرية المنتظرة، لم يكن مجرد اقتراع في صناديقه الخشبية، بل كان نبض أمة، صرخةَ كرامة، وهمسة روح تتوقُ إلى أن تولدَ من جديد.
كان القلمُ، في ذلك اليوم، أثقل من أي سيف، والورقة التي تحمل "نعم" أو "لا" أقدسَ من أي وثيقة قديمة. لم تكن مجرد إشارة، بل كانت خلاصة عواطفَ جياشة، وترجمةَ آلام عميقة، وتتويجا لحلم راود الأجيال. كل صوت كان قطرةَ ماء تروي شجرة الكرامة التي غُرست منذُ الأزل، وكل علامة كانت خيطا ينسجُ قماش المستقبل.
أدركوا أن الطريقَ لن يكونَ مفروشًا بالورود. وأن الأصواتَ المعاديةَ ستتعالى، وأن التحدياتِ ستكونُ جسامًا. لكنهم أدركوا أيضًا أن الخوفَ قد ماتَ في قلوبهم منذُ زمنٍ بعيد، وأنهم قد تجاوزوا نقطةَ اللاعودة. إنهم شعبٌ يختارُ طريقهُ بوعي، يدفعُ ثمنَ حريتهِ بكرامة، ويقفُ شامخًا كالجبالِ التي تُحيطُ بوطنهم.
كانتْ الشوارع تحتضن احتفالات الكورد بزيهم الكوردي الجميل، حاملين بايديهم علم كوردستان، العيون تبرق بدموع الفرح المشوب بترقب، والأيدي ترفع شارات النصرِ، ليست انتصارًا على عدو، بل انتصارًا على قيود الزمان وغبارِ النسيان. كلُّ صوت خرج من حنجرة، كل بصمة ارتسمت على ورقة، كانت حجرَ زاوية في صرح المستقبل، شاهدًا على إرادةٍ لا تلين.
وبينما كانت شمس ذاك اليوم تغرب ببطء، تاركة خلفها وهجًا أحمر على قمم الجبال، بقيت قلوب الكثيرين تتقد بنارِ الانتظار. فمهما كانت النتائجُ، ومهما كانت التحديات، فإن بذرةَ الأملِ التي زرعت في ذلكَ اليوم، ستبقى تنمو في تراب الروحِ الكوردية، شاهدةً على أن للأحلام أجنحة، وأن للإرادةِ قوةً لا تقهر. وسيظل الاستفتاءُ قصةً تروى، ليستْ كفصلٍ أخير، بل كصفحة مضيئة في كتاب لم ينتهِ بعد.
وبينما كانت الصناديق تغلق إيذانًا بانتهاءِ يوم الاقتراع، لم تكن مجرد صناديق تحملُ أوراقًا. كانت تحملُ قلوب أمة، وصدى تضحياتها، وأشواقها نحو فجرٍ جديد. فجر تشرق فيه شمس كوردستان بحرية وكرامة، وتعلن للعالم أجمع أن هذا الشعب قد قال كلمته، وقد اختار مستقبله بيده. في ذلك اليوم، لم يكن الشعبُ الكوردي يصوّت لأجل السياسة فحسب، بل كان يصوّت لأجل الروح، لأجلِ التاريخ، لأجلِ كلِّ قطرة دمٍ سُفكتْ على أرض هذا الوطنِ المقدس.
لا ينكر أحد أن طريق الاستقلال مليء بالتحديات. فالبيئة الإقليمية معقدة، والمصالح المتعارضة كثيرة. ولكن الشعب الكوردي، الذي أثبت قدرته على الصمود في وجه أقسى الظروف، يمتلك الإرادة والعزيمة لتجاوز هذه التحديات. لقد بنى إقليم كوردستان، بالرغم من كل الصعاب، مؤسسات قوية، واقتصادًا مزدهرًا نسبيًا، وقوات بيشمركة أثبتت كفاءتها وشجاعتها في مكافحة الإرهاب.
إن الاستقلال، لا يعني الانعزال، بل يعني القدرة على بناء علاقات متكافئة ومحترمة مع الجيران والمجتمع الدولي. يعني القدرة على المساهمة في استقرار المنطقة، وتقديم نموذج للديمقراطية والتعايش السلمي. هو فرصة للانطلاق نحو مستقبل مشرق، حيث يتمتع الكورد بحقوقهم كاملة، ويسهمون بفاعلية في بناء الحضارة الإنسانية.
إن صوت الكورد في الاستفتاء كان رسالة واضحة للعالم: "نحن هنا، ونحن نستحق الحرية". إنها دعوة للمجتمع الدولي للتعرف على حقائق التاريخ، واحترام تطلعات شعب عانى الكثير. إن دعم حق الكورد في تقرير مصيرهم ليس فقط دعمًا لمبادئ العدالة والديمقراطية، بل هو أيضًا استثمار في الاستقرار والسلام في منطقة مضطربة.
إن الاستفتاء لم يكن نهاية المطاف، بل كان بداية فصل جديد في مسيرة الشعب الكوردي نحو تحقيق حلم طال انتظاره: دولة كوردستان الحرة والمزدهرة، حيث ينعم أبناؤها بالأمن والكرامة والعدالة.