كوردستان بعد ثمانية أعوام من الاستفتاء: بين الإصرار الشعبي والخذلان الدولي

كوردستان بعد ثمانية أعوام من الاستفتاء: بين الإصرار الشعبي والخذلان الدولي
كوردستان بعد ثمانية أعوام من الاستفتاء: بين الإصرار الشعبي والخذلان الدولي

مرّت ثمانية سنوات على إجراء استفتاء الاستقلال في إقليم كوردستان العراق في 25 أيلول/سبتمبر 2017، ذلك الحدث التاريخي الذي شكّل منعطفاً استراتيجياً في مسيرة الكورد السياسية، الاستفتاء لم يكن مغامرة عاطفية أو نزوة سياسية، بل جاء تتويجاً لتراكم طويل من الإحباط واليأس من سياسات بغداد، ومن المماطلة المزمنة في تطبيق الدستور العراقي، وخاصة ما يتعلق بالمادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، وملف النفط والغاز والموازنة، فضلاً عن تعطيل تأسيس المجلس الاتحادي والمحكمة الدستورية العليا، لذلك مثّل الاستفتاء تعبيراً مزدوجاً: من جهة، تجسيداً لمبدأ حق تقرير المصير الذي يكفله القانون الدولي؛ ومن جهة أخرى، احتجاجاً عملياً على خرق بغداد المستمر للدستور وتجاوزها للشراكة التي كان من المفترض أن تؤسس لعراق اتحادي ديمقراطي.

بعد ثمانية أعوام، لا تزال المسببات التي دفعت الكورد لإجراء الاستفتاء قائمة بل تفاقمت، ملف الموازنة ما زال ورقة ابتزاز سياسي تُستخدم ضد الإقليم، وتصدير النفط ما يزال موضع خلاف جوهري مع بغداد، أما المادة 140 فما زالت حبراً على ورق، إذ لم تُحسم قضية كركوك والمناطق المتنازع عليها، إلى جانب ذلك، شهدت العلاقة بين بغداد وأربيل تدخلات غير دستورية مباشرة من قوات الحشد الشعبي بدعم لوجستي إيراني، بلغت ذروتها في أحداث 16 تشرين الأول/أكتوبر 2017 وما تلاها من تهجير أكثر من ربع مليون مواطن من كركوك وسنجار وخانقين إلى مدن الإقليم، وسقوط مئات الضحايا، ونهب واسع للممتلكات، هذه الوقائع لم تُحاسب عليها القيادات المتورطة رغم خرقها الصريح للدستور.

المفاجئ أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، التي طالما تغنت بحق تقرير المصير وراقبت الاستفتاء عن قرب، تنكرت لنتائجه ووقفت ضده بذريعة الحفاظ على وحدة العراق، هذا التحول لم يكن أخلاقياً أو قانونياً، بل نابع من اعتبارات واقعية تتعلق بمصالحها في العراق والمنطقة، كذلك فعلت الأمم المتحدة التي اكتفت بالمراقبة دون أي اعتبار لنتيجة الاستفتاء التي حظيت بتصويت 92% من المشاركين لصالح الاستقلال، بنسبة مشاركة تجاوزت 80%.

أما تركيا، ورغم علاقاتها العميقة مع إقليم كوردستان وزعيمه الرئيس مسعود بارزاني، وقفت ضد الاستفتاء متذرعة بمخاوفها الداخلية من المسألة الكردية في أراضيها، وخشيتها من تأثير الاستفتاء على أكرادها، مع أن علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الإقليم استمرت لاحقاً وتطورت بشكل براغماتي.

الإجراءات الانتقامية التي اتخذتها بغداد ضد الإقليم بعد الاستفتاء، بما في ذلك تهديد أربيل نفسها، اصطدمت بصمود البيشمركة الذي برز في معارك التون كوبري وسحيلة، هذا الصمود لم يكن عسكرياً فقط، بل رمزياً أيضاً، إذ أكد أن إرادة الشعب الكردي لا تُكسر بسهولة، ومع ذلك، كان الثمن باهظاً من حيث فقدان السيطرة على مناطق استراتيجية مثل كركوك وسنجار، وجرح الذاكرة الجمعية الكردية بمشاهد النزوح والتهجير.

رغم الخسائر الفورية، استطاعت قيادة الإقليم، ممثلة بالرئيس مسعود بارزاني وبدعم من الرئيس نيجيرفان بارزاني ورئيس الحكومة مسرور بارزاني، أن تحوّل آثار الفشل السياسي إلى نجاح اقتصادي وعمراني، شهد الإقليم خلال السنوات الأخيرة طفرة في البنية التحتية، وتحسناً ملحوظاً في الخدمات العامة، إضافة إلى بناء شبكة علاقات دولية متينة مع دول الخليج والدول الأوروبية والولايات المتحدة، وإلى جانب هذه القيادة التاريخية، برز جيل جديد من القيادات الشابة التي أخذت زمام المبادرة في إدارة الملفات الاقتصادية والمالية، وقادت تحولات كبيرة رغم شبه الحصار المفروض على الإقليم، وقطع رواتب الموظفين، وإيقاف تصدير النفط منذ عام 2023، هذا الحضور الشبابي منح التجربة الكردية طاقة متجددة، وأثبت أن الإقليم قادر على خلق بدائل تنموية حتى في أحلك الظروف.

اليوم، يمكن القول إن الاستفتاء رغم فشله في تحقيق هدفه المباشر، نجح في تكريس فكرة الاستقلال كخيار استراتيجي راسخ في الوعي الجمعي الكردي، وأكد على أن العلاقة بين بغداد وأربيل لا يمكن أن تستمر على قاعدة التبعية أو المساومة غير المتكافئة، الاستفتاء أعاد توجيه بوصلة الحركة السياسية الكردية من مجرد المطالبة بحقوق دستورية داخل العراق إلى التفكير الجدي في مستقبل مستقل، ولو على المدى الطويل.

الشارع الكردي، الذي خرج من تجربة الاستفتاء أكثر قناعة بضرورة الاستقلال، أصبح يدرك أن المجتمع الدولي لن يمنح حقه بسهولة، وأنه لا بد من الاعتماد على وحدة الصف الداخلي، وبناء مؤسسات قوية، واستثمار النجاحات الاقتصادية والسياسية لتعزيز موقع الإقليم، وهنا يبرز دور القيادة الكردية التي استطاعت الحفاظ على الكيان الكردي رغم الحصار، وحافظت على مشروعها السياسي في وجه التحديات.

إن مرور ثمانية أعوام على الاستفتاء يثبت أن القضية لم تُغلق، وأنها ستظل حاضرة ما دامت الأسباب قائمة، وما دام الشعب الكردي مؤمناً بحقه في تقرير مصيره، وما دام الدستور العراقي يُنتهك دون رادع. الاستفتاء لم يكن نهاية المطاف، بل بداية مرحلة جديدة من النضال السياسي والاقتصادي والدبلوماسي.