الوطن في عيون الشاعر إدريس سالم

الوطن في عيون الشاعر إدريس سالم
الوطن في عيون الشاعر إدريس سالم

إن ما يشعر به الإنسان العادي، هو عين ما يشعر به الشاعر، ولكن بدرجة متفاوتة وأعلى. يبقى الشاعر مرهف الإحساس والمشاعر، تجاه أي حدثٍ، أو مسألة عارضة للحياة والمجتمع، ومهمة الشاعر، أن يفهم الحياة ومشاكلها، ويدخلها في قالبه الأدبي، ويمررها عبر مخياله وأسلوبه، ومن ثم يعرضها بصورتها النهائية على الناس. 

إذن الشاعر مادة متاحة للجميع، ومادة سهلة التناول لاستخراج واستنباط أي حدث يصيب المجتمع، فعند دراستنا لعقل الشاعر وتصوراته؛ نكون أمام خيّارين: 

إما أننا نكون أمام أفكار تمثل مجموعة من الناس، أو أننا نكون أمام أفكار يرفضها المجتمع، ولا تمثل إلا صاحبها.

يولد الإنسان ويتربّى على بديهياتٍ، تصبح جزءاً أساسياً غير قابل للانفصال عن نظرته الرئيسية والعامة للحياة، وقلّما يفكر في هذه البديهيات بطريقة ديكارت التشكيكية (وإلا لَمَا ظهر هذا المذهب بشكل يدعو البعض إلى رفضه ومحاربته). ومن هذه البديهيات التي توقف عندها عدد من المفكرين والأدباء والفلاسفة والشعراء هو مفهوم «الوطن». وتنوعت تعريفاتهم لهذه اللفظة، ففي لسان العرب لابن منظور ورد في تعريف وطن: «فعل وَطّنَ، أي وَطَّنَ الشخص البلد واتخذهُ مسكناً يعيشُ ويُقيمُ فيه». فحسب هذا التعريف الوطن ليس مكان محدداً، ولا بلداً بعينه أو مسقط رأس، إنه يعطي للفرد مرونة للتعامل مع الوطن بشكل أوسع وأشمل، وهذا ما لا يتفق مع مفهوم الوطن في عدد من اللغات الأجنبية، مثلاً اللفة الفرنسية التي كلمة Patrie   تعني بلد الآباء، أو Vaterland ، التي تعني في الألمانية أيضاً بلد الآباء. وبالطبع الاختلافات تتوسع أكثر عند الإسلاميين، الذين يعتبرون كل الأرض وطناً، والقوميين الذين يبنون أوطانهم حسب قوميتهم، والإنسانيين الذين لا يؤمنون بالحدود؛ ويصبح الجمع بينهم من الصعوبة بمكان.

ما هو الوطن إذن؟ هل هو بلد يشعر الإنسان فيه بالراحة والطمأنينة، وتتوفر فيه حياة كريمة ورغيدة ويعمّ فيه السلام والأمان، بغض النظر إذا ولد فيه أو لا؟ أم أنه مسقط رأس الإنسان والتراب، الذي ولد عليه، رغم كل ما فيه من مساوئ ونزاعات ورجعية وتخلف وعنصرية واستبداد ودمار...؟

للإجابة على هذا السؤال؛ سنبحر في عالم شاعر يملك هوية وجنسية ووطناً مزدوجاً أو مبهماً، لنحاول أن نتعرف على مفهوم الوطن عنده، عن طريق تحليل ديوانه الأخير، والصادر حديثاً عام 2025م، عن دار نوس هاوس، والموسوم بـ «مراصد الروح»، والذي تناول فيه الشاعر الكوردي إدريس سالم مفهوم الوطن حسب تجربته مع الوطن.

في أول قصيدة يفتتح به سالم ديوانه، والمعنونة بـ «دمٌ أعمى»، نجد أن في ثاني سطر فيه يذكر اسم مدينته (كوباني)

«وحيدٌ أنا

كعاشقةٍ جائعةٍ في أزقة كوباني».

لدرجة أنه يشعر القارئ وكأن الوطن يضغط عليه، ولا يترك له مجالاً للهروب بعيداً عنه، أو أن يغوص في وجدانيته ومشاعره الإنسانية والعاطفية. وهو هنا يشبّه نفسه ووحدته بحال وطنه الوحيد، والذي يعاني مثله، ويبحث عمّن يساعده، ويقف إلى جانبه، ويشعر سالم بشيء من التماهي بينهما، وشراكة المصير والحال. وبعدها ينتقل إلى ذكر أماكن ومدن وعواصم أخرى، وكأن الجغرافية تقيّده من كل الجهات.

«في عفرين. في كركوك. بيروت. دمشق .بغداد».

وفي قصيدته «ليس للكورديِّ... إلا البكاء»، والتي عنوانها مستوحى من قصيدة الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، «ليس للكوردي إلا الريح» يقول فيها:

«في وطني

يستلُّ المارقون أسيافَ البترِ

يقطعون أطرافَ الأمسِ

وشرايينَ الضوء».

إذن وطنه وطن ممزق، ومحكوم من فئة مجرمة، لا تحترم الإنسان، ولا قيمة الوطن والمواطنين، وينتشر فيه الاستبداد، ورغم ذلك يبقى هذا الوطن الممزق في وجدانه وفي ضميره يحمله معه رغم كل مساوئه ويكتب عنه ومن أجله. لكنه يقابل بين هذه الصورة القاتمة والمؤلمة، وبين صورة ناصعة وجميلة عن الوطن، عندما يقول في قصيدة «قضيةٌ مخذولةٌ»:

«هو وطنٌ أخضرُ يلبسُ «خَفتَاناً» أحمرَ

هو سوسنٌ

هو مِسكٌ

عودٌ

وعنبرْ...».

ما الذي يمكن أن يفهمه القارئ من هذه الصورة؟ وما الذي يريد الشاعر أن يوصله لنا؟ يريد أن يقول لنا أن وطنه أرضه، وأرضه مسقط رأسه، وأنه يحبه مهما كان موحشاً ومقفراً، وأنه يرى الجمال الذي فيه كما يرى الخراب الذي فيه، وأنه سيبقى وفياً لهذا الجمال، ويحمله بين ضلوعه، فرغم كل هذا الخراب، لا زال يحب وطنه، ولا يستطيع أن يستعيض عنه، مهما عاش في بلد آخر كلاجئ أو كمغترب، ومهما يكن بلد اللجوء، الذي هو فيه بلداً عصرياً وحضارياً ومتطوراً، فإنه لا يتخلّى عن وطنه الممزق والمدمر وغير المتقدم، مما يجعلنا نستنبط أن الوطن عند سالم هو حسب المفهوم الغربي لا العربي (لسان العرب)، المفهوم الذي يتمسك ببلد الآباء، رغم واقعية الواقع ومرارته، ويظهر هذا بشكل جلي في قصيدته «مذابحُ المدن» عندما يقول:

«تحتَ رمادِ المنفى

المنطقي والأعمى

أدرّبُ مذابحي

على النسيان».

فهو يقول لنا، وكأنه يقدم عذره على تعلّقه بوطنه الرازح تحت مآسي الحرب أنه لا يستطيع أن ينسى هذه البلاد، رغم كل ما سببته له من مواجع ومذابح، ورغم رائحة الدخان ولهيب الحرب والقتل والطغيان، ورغم منطقية النسيان، لكنه لم يستطع لهذا البلد نسياناً؛ لأنه بلد آبائه، ومسقط رأسه، عندما يعلنه بشكل غير موارب:

«أنا جديلةُ كوباني».

هنا يكشف عن مفهومه واعتقاده في الوطن، بأنه مسقط رأسه، وأنه عضو وجزء من كينونة هذه المدينة، التي لم يستطع التخلي عنها، أو حتى نسيانها، رغم تغنج بلد اللجوء وتعرضها له لتغويه وتستهوي قلبه وعقله وضميره، إلا أنه فضّل بلاده رغم أنها «مقابر جماعية مبعثرة هنا وهناك»، ورغم أن وطنه «لا يزال ضائعاً حائراً»، ورغم أن بلاده فيها «مكبسٌ لتغليف الأشلاء»، وأن المعتقل فيها ينسى اسمه، ورغم أن وطنه «على كفّ الريح... وصار عفريتاً»، إلا أنه لم يفضّل غيره عليه مهما كان فاتناً وباهراً.

يريد سالم أن يقول لنا: هذه أوطانكم التي أختارها الله لكم، اقبلوا بها، وارضوا بها، وأحبوها واعملوا من أجلها، إذا لم يعجبكم شيء فيها، هي قدركم الذي لم تختاره، مثلما أنكم لم تختاروا آباءكم وأمهاتكم، فالإنسان لا يتخلّى عن أهله وأمه أو أبيه، إذا كانا سيئان.