أربيل.. دروس في الإدارة والتنمية

أربيل.. دروس في الإدارة والتنمية
أربيل.. دروس في الإدارة والتنمية

تشكل المقارنة بين بغداد وأربيل (عاصمة إقليم كردستان العراق)، نموذجا واضحا لتباين اساليب الادارة ومستويات الاداء الخدمي داخل الاطار الوطني الواحد.. فبينما تواجه بغداد منذ سنوات تحديات معقدة في مجالات البنية التحتية والكهرباء والماء والبيئة، يشهد إقليم كردستان رغم ما يعانيه من تضييق اقتصادي وضغوط مالية، تقدما ملحوظا في هذه المجالات يعكس قدرة الادارة المحلية على توظيف الموارد المتاحة بكفاءة ونزاهة.
برزت اربيل في السنوات الأخيرة كاحدى أكثر المدن العراقية تطورا من حيث الخدمات والمشاريع العمرانية. فالمتابع يلحظ فيها توسعا عمرانيا مدروسا وشوارع حديثة وجسورا ومبان حكومية وسكنية تضاهي ما موجود في مدن متقدمة.. ولم تعد أزمة الماء والكهرباء في اربيل مجرد قضية موسمية تشب في الصيف وتهمد في الخريف، بل تحولت إلى ملف استراتيجي حظي باهتمام مباشر من حكومة الإقليم، ففي عام 2024، أُطلقت مجموعة من المشاريع النوعية لمعالجة النقص في تجهيز الكهرباء وتأمين مصادر مياه نظيفة. ومع نهاية صيف 2025 بدأت تظهر النتائج بوضوح: أُغلق أكثر من ألف بئر جوفي كانت تعتمد عليها بعض القرى والأحياء، واستُبدلت بمصادر مائية نقية وصحية. كما أُطلق مشروع “روناكي” في أكتوبر 2024، الذي يُنفذ بكفاءات عراقية محلية ويُتوقع اكتماله عام 2026، ويهدف إلى تأمين التيار الكهربائي للمواطنين بلا انقطاع.
وقد كتب الاعلامي مهند محمود شوقي ان هذا المشروع اتاح حتى الآن الاستغناء عن أكثر من 3220 مولدا كهربائيا في الأسواق والأحياء، مما خفّض نفقات الأسر الشهرية إلى نحو النصف مقارنة بما كانت تدفعه سابقا. وشهدت أربيل فضلا عن ذلك توسعا كبيرا في المساحات الخضراء داخل المدينة، إذ ارتفعت نسبتها إلى نحو 20% من المساحة الكلية، وهي نسبة تقارب معدلات مدن أوروبية مثل باريس (20%) ومدريد (21%) وميلانو (22%). وتشير بيانات بلدية اربيل إلى وجود 26 متنزها كبيرا و204 حدائق عامة و209 بساتين وغابات و163 جزرة وسطية مزروعة بالأشجار والورود و109 نافورات ماء، فضلا عن مشاريع جديدة قيد التنفيذ. وتتوافق هذه المعدلات مع توصيات منظمة الصحة العالمية التي تحدد 9 أمتار مربعة من المساحات الخضر للفرد الواحد، ومع معايير برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية (UN-Habitat) الذي يوصي بنسبة تتراوح بين 15 و20%.
هذا الاهتمام بالبيئة الحضرية انعكس إيجابا على المناخ المحلي وسوف يساهم في الحد من الأمراض التنفسية ويرفع مستوى جودة الحياة في المدينة.
في المقابل، تواجه بغداد وبقية المدن العراقية وضعا مغايرا. فحسب تقارير بيئية حديثة، هبطت نسبة المساحات الخضر في العاصمة إلى أقل من 10% بعدما كانت 28% قبل عام 2003. كما أظهرت بيانات دولية أن العراق فقد جزءا كبيرا من غطائه النباتي ليحتل المرتبة السادسة عالميا بين الدول الأكثر تلوثا بالهواء وفق تصنيف شركة (IQAir) السويسرية المتخصصة بمراقبة جودة الهواء.
وتعاني بغداد ايضا من ضعف في تنفيذ الخطط البيئية، وغياب استراتيجيات واضحة لمعالجة ملفي الماء والكهرباء، مما انعكس على حياة المواطنين اليومية وعلى جودة الخدمات العامة.
إن تجربة اربيل بما تضمنته من رؤية خدمية واستراتيجية متكاملة، تقدم نموذجا عمليا يمكن الاستفادة منه في سائر المحافظات العراقية. ويمكن تلخيص أبرز الدروس المستفادة في النقاط التالية:
 1. نشر الوعي البيئي بين السكان وتعزيز ثقافة احترام الغطاء النباتي، مع فرض قوانين رادعة وغرامات ضد المتجاوزين على الحدائق والساحات العامة.
 2. إعطاء الأولوية لملفات الماء والكهرباء بوصفها الركيزة الأساسية للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، مع متابعة تنفيذ المشاريع بشفافية.
 3. تشجيع الشراكات مع القطاع الخاص لإنجاز مشاريع استراتيجية شبيهة بمشروع “روناكي”، تضمن استدامة التمويل وتقليل الهدر.
 4. إطلاق برامج وطنية للتخضير تشمل انشاء حدائق عامة في الأحياء السكنية كافة وتشجير الشوارع والجزر الوسطية، مع مراقبة عمليات الصيانة والمتابعة الدورية.
 5. وضع معايير بيئية ملزمة للمدن الكبرى تتوافق مع توصيات منظمة الصحة العالمية والبرامج الأممية، خصوصا في ما يتعلق بحصة الفرد من المساحات الخضراء وجودة الهواء والمياه.
إن الوجه الحضري للمدن لا يُقاس بعدد الأبنية أو احجامها فقط، بل بمدى توافر الماء النقي والكهرباء المستمرة والبيئة النظيفة والمساحات الخضراء.
ومن هنا، فإن تعميم تجربة أربيل على بقية المحافظات يمكن أن يمثل خطوة مهمة نحو تحسين نوعية الحياة في العراق وترسيخ الثقة بين المواطن والدولة من خلال خدمة حقيقية تمس احتياجاته اليومية.