
مهند محمود شوقي
محرر
العراق بين حكم الملوك والعسكر والديمقراطية المعلّقة

منذ إعلان تأسيس المملكة العراقية عام 1921، عاش العراق رحلة طويلة ومعقدة من التحولات السياسية والاجتماعية. وُلدت الدولة الحديثة من رحم التوازنات البريطانية بعد سقوط الدولة العثمانية، فكان التأسيس مزيجًا من الطموح الوطني والوصاية الأجنبية. تنصيب الملك فيصل الأول جاء كحل وسط بين رغبة القوى الخارجية في إقامة نظام حليف لها وبين حاجة العراقيين إلى رمز يوحّد البلاد الممزقة بين إرث الإمبراطورية العثمانية وتجزئة العشائر والمذاهب. ومع ذلك، بقيت الدولة تحت تأثير النفوذ البريطاني، وازدادت معاناة الشعب من القيود على سيادته وحرمانه من حقوقه الأساسية.
على مدار القرن الماضي، شهد العراقيون ويلات الحروب والصراعات الداخلية والخارجية، بدءًا من الانقلابات العسكرية في منتصف القرن العشرين، وصولاً إلى صعود حزب البعث، وحكم صدام حسين الذي جمع بين التنمية المؤقتة والقمع الشديد. فبينما استفاد البعض من النفط والنهضة العمرانية، غرق غالبية الشعب في الفقر، القمع، البطالة، والتهميش السياسي. الحروب المتتالية، بدءًا من الحرب مع إيران، غزو الكويت، ثم العقوبات الدولية، لم تترك للعراقيين سوى الألم والمعاناة، بينما تآكلت المؤسسات، وانتهكت الحريات، وغاب العدالة الاجتماعية.
ولم يكن الشعب الكوردي بمنأى عن هذه المآسي، بل واجه ويلات مزدوجة: اضطهاد النظام المركزي، محاولات التهجير، والقمع العنيف. على الرغم من ذلك، لعبت القيادة الكوىدية دورًا فاعلًا في الحفاظ على هوية الكورد وإرساء قواعد الحكم الذاتي، وشهدت كوردستان سلسلة من الثورات والمقاومة ضد السياسات المركزية في بغداد، ابتداءً من ثورة أيلول 1961 بقيادة مصطفى البارزاني، مرورًا بالنضالات المتكررة ضد النظام البعثي، وصولاً إلى تطوير تجربة سياسية وإدارية متقدمة بعد سقوط صدام، انعكست في إدارة الإقليم بمؤسسات مستقلة نسبيًا والحفاظ على الأمن والاستقرار.
في الوقت نفسه، لم تُهمل الحقوق الأساسية لبقية المكونات العراقية، بما في ذلك السنة والشيعة، وكذلك الأقليات الدينية مثل المسيحيين، الصابئة، الإيزيديين، والشبك، الذين عانوا على مدار المئة عام من التهميش والقمع أحيانًا، ومن النزاعات المسلحة أحيانًا أخرى. وقد أكدت التجارب الإقليمية والسياسية على ضرورة وجود دولة عادلة قادرة على حماية حقوق جميع المواطنين، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الإثني، وهو ما يشكل ركيزة أساسية لأي مشروع ديمقراطي حقيقي.
مع سقوط النظام في نيسان 2003، واجه العراق مرحلة جديدة من التعقيد، حيث برزت المحاصصة الطائفية، وتكاثرت الميليشيات، وارتفع مستوى الفساد، ما أثر على الجميع دون استثناء. رغم ذلك، شكلت قيادة الإقليم الكوردي نموذجًا للحكم الرشيد، وأثبتت أن إدارة شؤون المواطنين بالعدل والشفافية ممكنة حتى في بيئة معقدة. بينما ظل معظم العراق يعاني من العنف الطائفي والانقسامات السياسية وانعدام الأمن، كان إقليم كوردستان يثبت قدرة شعبه على الصمود والتحكم في مستقبله، مع احترام حقوق جميع المكونات.
واليوم، وبعد مرور أكثر من قرن على تأسيس الدولة العراقية، يطرح السؤال نفسه: هل سيتمكن العراق من بناء نظام وطني جامع يحمي حقوق جميع مواطنيه؟ ومع اقتراب الانتخابات العراقية المرتقبة في 11/11/2025، تتصاعد التساؤلات: هل ستنجح هذه الانتخابات في تحقيق ديمقراطية حقيقية؟ هل ستثمر عن حكومات قادرة على خدمة المواطنين، أم أن حكم الأحزاب والميليشيات سيظل هو الغالب؟ وهل ستشهد بغداد تحولًا نحو دولة مدنية قوية تحمي حقوق السنة والشيعة والكورد وكل المكونات الدينية والإثنية؟
في الوقت الذي يتحدث فيه الساسة عن الديمقراطية، يعيش العراقيون تحت وطأة اقتصاد مترنح وفساد متجذر وبطالة متصاعدة، بينما يحاول اقليم كوردستان الموازنة بين الاستقلال الاقتصادي والانتماء الفيدرالي، ليشكل نموذجًا يحتذى به في إدارة التنوع وحماية الحقوق. وربما يمكن القول إن العراق اليوم يقف على أعتاب جمهوريته الثالثة، جمهورية تبحث عن عقد اجتماعي جديد ينهض من بين أنقاض الماضي، ويؤسس لزمن تتوازن فيه الدولة مع المواطن، وتتحول فيه الذاكرة من صراع إلى تجربة تعلم.
فالعراق الذي بدأ ملكيًا، ثم صار جمهوريًا، ثم دخل تجربة الديمقراطية المعلّقة، لا يزال يبحث عن جوهره المفقود: دولة اتحادية فيدرالية عادلة تحكمها المؤسسات لا الأشخاص، والإرادة الشعبية لا إرادة الخارج. ومثل اي دولة مرت بمئة عام من الصراعات والمعاناة، يبقى الأمل قائمًا بأن العراق، رغم كل ما مرّ به، قادر على النهوض من جديد، إذا امتلك شجاعة المصارحة، وحكمة التوازن، وإيمانًا بأن المستقبل لا يُبنى إلا على دروس التاريخ.