
شاهو القره داغي
باحث في العلاقات الدولية
حينما تُلين طهران.. يرتجف التشدد في بغداد: كيف ينعكس الانفتاح الإيراني على نبض الشارع العراقي؟

مع تخفيف السلطات الإيرانية من إجراءات فرض الحجاب، بدا الأمر وكأنه تطور داخلي بحت، لكن سرعان ما تجاوزت أصداؤه حدود إيران لتصل إلى العراق، حيث يتابع الشارع العراقي — بفضول ودهشة — التحولات الاجتماعية، في الدولة التي طالما اعتُبرت مرجعاً ثقافياً ودينياً لدى شرائح معينة من المجتمع العراقي.
وفي الوقت الذي تراجع فيه خطاب التشدد الرسمي داخل طهران، وجد بعض التيارات العراقية القريبة من إيران نفسها أمام مفارقة صعبة: فالنموذج الذي لطالما دافعت عنه بدأ يتغيّر من الداخل، ما أثار نقاشاً واسعاً في العراق حول معنى “الالتزام” و”الحرية الشخصية"، وخاصة أن هذه التغييرات داخل إيران تزامنت مع وجود موجة نحو فرض نوعية محددة من اللباس من قبل شخصيات معينة مثل السيدة أمطار المياحي، إضافة إلى قرار مجلس محافظة بغداد باعتماد "العباءة الزينبية" لباساَ رسمياَ في العاصمة العراقية بغداد .
من طهران إلى بغداد: رسالة غير معلنة
في طهران، لم يكن التغيير وليد لحظة واحدة، فمنذ احتجاجات 2022 وحادثة "مهسا أميني" بدأت السلطات تخفف من رقابة “شرطة الأخلاق”، وتتعامل بمرونة مع قضايا اللباس في المدن الكبرى مثل طهران وشيراز وأصفهان، حيث ظهرت صور ومواد إعلامية في الصحف والتلفزيون المحلي تُظهر نساء بلا غطاء رأس صارم، دون أن تُواجَه بعقوبات علنية كما كان يجري في السابق والتي شكلت تحولاَ نوعياَ داخل المجتمع الإيراني، إضافة إلى إقرار مباشر من السياسيين بهذه المراجعة والتي كانت على لسان رئيس الجمهورية الإيراني مسعود بزشكيان والذي صرح بوضوح "إنني لا أؤمن بالإكراه إطلاقاً، ولا أراه قابلاً للتنفيذ، وفي المسار الذي نتبعه لا وجود لمثل هذا الأمر "
وتكملة لهذه الرؤية الجديدة، أعلن محمد باهنر عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام الإيراني، أن "نظام الحكم أنهى رسمياً (الحجاب الإلزامي) ولم يعد هناك أي إلزام أو غرامات مالية أو عقوبات بخصوصه" وأكد أن" الجمهورية الإسلامية تشهد تحولات تدريجية في أنماطها السياسية والفكرية "
صدى الانفتاح في العراق
في المقابل، انعكست هذه التغيرات على الشارع العراقي بعدّة طرق، حيث تساءل الكثير من العراقيين : "إذا كانت إيران نفسها تعيد النظر في فرض الحجاب، فلماذا يُصرّ بعض رجال الدين في العراق على التشدد أكثر؟!
و بين أوساط الشباب والنساء، خصوصاً في بغداد والنجف وكربلاء، ظهر نوع من “الدهشة النقدية”:
كيف للتيارات التي تتبنى النسخة العراقية من الثورة الإيرانية أن تتمسك بخطاب صارم بينما مركز هذا النموذج بات أكثر تسامحاً؟
وفي وسائل الإعلام المحلية، كتب بعض الكتّاب والمحللين أن “الانفتاح الإيراني كشف التناقض في الخطاب العراقي المحافظ، الذي استورد التشدد ولم يستورد المراجعة”.
إحدى الحسابات العراقية على منصة إكس تقول " النساء في جمهورية ايران تمشي في الشوارع من دون حجاب بعد هامش الحرية التي اعطتها لهم السلطات . وبالعراق يصير ماراثون والبنات لابسات حجاب يطلع 100 معمم يحجي ويستنكر"
بينما يتساءل حساب آخر " اذا كانت الثورة، وبعد ٤٦ عام، لم تنجح في فرض أيديولوجيتها على مواطنيها فما جدوى فرضها وتصديرها للخارج غير الهيمنة! "
وأخيراً أحدهم يقول : "بعد ٤٦ عاماً، إيران "الإسلامية" تستسلم للضغوط الداخلية والخارجية، وتلغي قانون الحجاب لتتحول طهران إلى ما يشبه باريس... هل هذه إشارة الى تراجع قبضة النظام الداخلية ...؟
ازدواجية الخطاب وتحدي المرجعيات
هذا التحول وضع التيارات المقربة من طهران في موقف حرج، فبينما كانت تلك التيارات تُروّج لفرض نموذج “إسلامي صارم” في اللباس والسلوك، بدأت الجمهورية الإسلامية نفسها تتعامل مع المسألة بمقاربات جديدة، وتعلن عن التراجع عن السياسات السابقة للتصالح مع الجيل الجديد والاستجابة لمطالب الشارع في سبيل تقوية الأواصر بين المواطنين ومؤسسات الدولة و إنهاء حالة الصدام والكراهية التي كانت تُفاقم التوتر مع شريحة واسعة من المواطنين، إضافة إلى تحسين صورتها الدولية.
ونتيجة لهذه التطورات السريعة، كان هناك تباين واضح لقراءة هذا المشهد الجديد من قبل العراقيين، بين من يرى أن إيران
“تتنازل تحت ضغط الشارع”، وبين آخرين يصفون هذه الخطوات بأنها “تحديثات واقعية” لا يتعارض مع الدين.
و المؤكد أن الخطوة الإيرانية فتحت نقاشاً عراقياً حقيقياً حول العلاقة بين الحرية الفردية والتدين العام وخاصة لدى مناصري الجماعات المحافظة التي تحلم بتطبيق حرفي للتجربة الإيرانية في العراق ، وتضعها في موقف محرج أمام أنصارها بصورة خاصة وامام العراقيين جميعاً بصورة أعم.
نحو قراءة عراقية جديدة
التحول الإيراني لا يُقرأ في العراق على نحو واحد، فبينما يرى البعض أنه خطوة “شجاعة نحو الواقعية”، يعتقد آخرون أنه “تنازل خطير عن القيم الإسلامية”، لكن ما لا خلاف عليه هو أن هذه الخطوة حرّكت نقاشاً عميقاً في مجتمع يعاني من استقطاب بين حداثةٍ متسارعة وتقاليد راسخة، ويشير محللون إلى أن الانفتاح الإيراني قد يعيد رسم حدود التشدد الديني في العراق ، ليس من خلال قرارات رسمية، بل عبر "عدوى ثقافية" تنتقل تدريجيا، وخاصة أن الكثيرين من العراقيين قد تحدثوا عن هذه القضية وعبروا عن الاندهاش بهذه التغييرات في المجتمع الإيراني.
إن التحولات التي تجري في إيران تجاه مرونة أكبر في فرض الحجاب ليست شأنًا داخليًا بحتًا، فهي تُنتج ما يشبه "مرآة" أمام الشارع العراقي، وتُظهر أن التشدد المطلق قد لا يكون الخيار الأمثل في زمن تتداخل فيه العولمة والتواصل الاجتماعي مع الأصول الثقافية والدينية.
الخلاصة التي يفرضها المشهد أن على القادة الدينيين والاجتماعيين في العراق الانتباه إلى أن الزمن قد تغيّر، والخيار ليس بين التشدد والتفلت، بل في التدبير الحكيم للتغيير، والانتقال من خطاب القطبية العقيمة إلى خطاب جامع يأخذ في الاعتبار دور الأهل والدولة والدين معًا، ومن خلال هذه المعادلة المتوازنة يمكن بناء مجتمع متماسك يتمسك بهويته دون أن يُختنق أفراده، ويستفيد من دروس الجيران دون أن يكون صدى لهم.