
أرسلان درويش
كاتب ومخرج مسرحي
حديقة الهسبريدس.. جسد يتذكّر أسطورته وأساطير تنزف في جسدها

في انحناءة الضوء على ركحٍ غارقٍ في الحلم، تتفتّح (حديقة الهسبريدس) كجسدٍ من الذاكرة، كأغنيةٍ خرجت من قلب الأسطورة لتواجه العالم بلغة الحركة والظلّ والبوح. هنا، لا شيء يُقال بطريقة مألوفة؛ فكل كلمةٍ تُهمس في جسدٍ يتكلّم، وكل حركةٍ تصير فعلًا معرفيًا يعيد للذاكرة معنى الوجود الأنثوي في التاريخ. العرض الذي أخرجته وكتبت دراماتورجيته ورقصت فيه الإسبانية (أليسيا سوتو) هو بيانٌ جماليّ ضد النسيان، ضد تحويل الجسد إلى صدى باهت، ضد القمع المتوارث كقدرٍ أزليّ يطارد فكرة الحرية منذ ولادة الحكاية الأولى. من خلال نصٍّ دراماتورجي مركّبٍ تتداخل فيه الأسطورة بالشعر، والمرويّ بالمرسوم، يتحوّل المسرح إلى مكانٍ للانبعاث، حيث تتوالد اللغة من الجسد، ويتحوّل الجسد إلى قصيدة تُكتَب بحبر الصرخة والرغبة والتمرد.
هذه الحديقة لا تُزرع بالأزهار، بل بالأصوات التي تخنقها السلطة، وبالذاكرة التي تتفتح في وجه القيود، كأنها تقول: لا حرية بلا جسد، ولا جسد بلا وعي بذاته ككونٍ كاملٍ لا يُختصر في فكرةٍ أو رغبةٍ أو مرآة.
في هذا الفضاءٍ المسرحيٍّ الذي يتنفس بين الأسطورة والواقع، حيث تتشابك الخيوط بين الجسد والروح، وتغني الأجساد قصائدها الخاصة، أتت مسرحية (حديقة الهسبريدس ) لتعيد تشكيل المفاهيم الجمالية والوجودية في قالبٍ فنيٍّ متفرد ولتجسّد شعريّة بصرية وحركية عميقة، تزاوج بين الكيروغرافيا كتصميم للأجساد في حركتها الموحية، وبين الدراماتورجيا التي تنحت الأسئلة من الصمت وتنسج الحكايات من الحضور.
الدراماتورجيا التي نسجتها (سوتو) مع (خوليو مارتين دا فونسيكا) و(كارمن ساموديو كوستينا) لم يكن بناءً كلاسيكيًا، بل هندسة وجدانية تتكئ على الأسطورة لتعيد بناء الخطاب النسوي كرحلةٍ من الداخل إلى الخارج، من الحلم إلى الفعل. فأسطورة الهسبريدات — تلك الحارسات اللواتي يحرسن بستان الخلود — تُستعاد هنا لا كرمزٍ للغواية، بل كصورةٍ للمقاومة، كجسدٍ يتذكّر ما سُلب منه عبر التاريخ.
الجسد الأنثوي في هذا العرض ليس موضوعًا، بل ذاتٌ فاعلة تعيد كتابة سردها عبر الحركة. حيث تتحرك الممثلات والراقصات الإسبانيات والمغربيات ككواكب في مدارٍ واحد، تتقاطع أنفاسهن كإيقاعاتٍ من طينٍ ونور، بينما تتحول الخطوات إلى مقاطع من شعرٍ أدائي يعبّر عن صراعٍ أبديّ بين القيود والتحرر، بين الذاكرة والنسيان، بين العزلة والانعتاق.
في هذا العرض برزت الممثلة المغربية (سناء عاصف) لتؤدي دورها بسلطةٍ جسديةٍ وصوتية آسرة، تصوغ بحركتها خطابًا من نارٍ وهدوء، من قسوةٍ وحلم. ففي مونولوجها الأول وهي تقوم بفعل حلق الشعر عن فخذها، لا نرى طقسًا يوميًا، بل نلمح جرحًا يفتح نفسه على التاريخ، سكينًا تكتب على الجلد سيرة الاضطهاد، وحركةً تتحدى التشييء الذي يجعل من الجسد مسرحًا للملكية لا للحرية.
بهذا المشهد تنقلب السلطة الرمزية على ذاتها: الجسد يتحرر من صورته المفروضة، يتحول إلى نصٍّ واعٍ، إلى تمثيلٍ يرفض التمثيل. وفي مشهد الحمّام يستكمل هذه الدائرة: الماء يغسل القمع لا الجسد، والمرايا تتفتت تحت الإضاءة لتترك المكان للضوء الداخلي، للحرية التي تتنفس لأول مرة عبر الرقص.
وهنا تكمن أهمية التصميم الكيروغرافي: فهو لم يأتِ بوصفه زينة أو مكمّلاً للحوار، بل باعتباره قلب العرض، اللغة البديلة التي تتجاوز المنطوق لتجعل الجسد ينطق بما تعجز الكلمات عن بلوغه. كل حركة كانت تكتب جملة، كل التواء جسدي يرسم استعارة، وكل انحناءة أو وثبة كانت تُترجم التوتر بين الجحيم الفردي والجنّة الموعودة التي لم تفتح أبوابها أمام النساء في أساطيرهن ولا في واقعهن.
العرض في جوهره مواجهةٌ بين الجسد كهوية وبين العالم كقيد، وفي هذا التوتر يتأسس الجمال. تصميم الكيروغرافيا الذي أشرفت عليه (سوتو) خلق توازنًا بين الفوضى والتناغم، حيث كل انحناءةٍ تتحول إلى معنى، وكل وقفةٍ إلى صرخةٍ مكتومة. الأجساد تتكلم بلغة ما قبل اللغة، لغةٍ تستعيد الغريزة الأولى، الإيقاع الأصلي، لحظة الخلق قبل أن يلوثها القمع. والموسيقى التي وضعها (عبد الله حساك) ظلت تنبض في عمق العرض كدمٍ يجري في شرايينه، موسيقى تنوس بين الإيقاع المغربي الحارّ والتكوين الإسباني المتأمل، لتخلق طبقةً من التهجين الصوتي الذي يترجم التعدد الثقافي للمشروع. إنها موسيقى الجسد حين يكتشف أنه كونٌ صغير، حين يتحول الإيقاع إلى نبضٍ، والنبض إلى فكرٍ راقصٍ لا يُقال بل يُعاش.
اما السينوغرافيا التي صممتها (إليسا سانز) فلم تكتفي بتأطير العرض بصريًا، بل نسجت فضاءً يتغير مع كل حركة. والإضاءة التي أبدعها (ميغيل أنخيل كاماشو) استطاعت ان تشكل ذاكرةً بصرية، فكل ظلٍّ يتحرك كفكرة، وكل ومضةٍ تُنير جانبًا من الصراع الداخلي. تتبدل الفضاءات من العتمة إلى الانكشاف كما لو أن المسرح يوازي رحلة الجسد من القيد إلى الانفتاح.
الجدران الشفافة، الماء، القماش، كلها عناصر تحمل معنى مضاعفًا: أدواتٌ للزينة تتحول إلى رموزٍ للتحرر. كأن المسرح في حديقة الهسبريدات ليس مكانًا، بل حالة وعيٍ متبدلة، تتنفس مع كل حركةٍ وتنهض مع كل صوت.
تتجلى براعة العمل في وحدة خطابها الفكري والجمالي والدرامي؛ فالعمل لا يقف عند حدود التمثيل أو الرقص، بل يمتد ليكون تجربةً فلسفيةً وشعريةً تتعامل مع المكان والزمن والجسد ككيانات مترابطة. النصوص المكتوبة بالاشتراك مع المشاركات، بالإضافة إلى الإخراج الدقيق لأليسيا سوتو، تُحوّل كل حركة وإضاءة وصوت إلى جزء من نسيج متكامل، ينسج خطابًا نسويًا معاصرًا يتمحور حول الحرية، الاستقلال، وحق المرأة في استعادة مكانتها التاريخية.
على مستوى الخطاب الجمالي، ينتمي هذا العرض إلى المابعد درامية، الذي يزاوج بين الشعر والأداء، بين الفعل الدرامي والرقص التجريدي و تصوغ المخرجة (أليسيا سوتو) الشكل ليعيد كتابة النص الجسدي في فضاء ما بعد درامي، حيث لا حدود واضحة بين الرقص والحوار، بين الحركة والصمت، بين الأسطورة والراهن. ، وهذا بالطبع يكشف عن فهمٍ عميق لمفهوم «التناسج الثقافي» الذي تحدث عنه باحثو المسرح المعاصر. فهذ االعرض (الإسباني المغربي) ليس مجرد تعاونٍ عابر، بل تجربة ثقافية تُظهر كيف يمكن للهوية أن تتعدد دون أن تتفتت، وكيف يمكن للجسد أن يحمل لغتين دون أن يفقد صوته الخاص. التعدد هنا ليس شكلًا، بل مضمونًا فلسفيًا، إذ تتحول الهجنة اللغوية والجسدية والموسيقية إلى تمثيلٍ لذاتٍ إنسانيةٍ واحدة تحاول أن تستعيد حقها في الحرية.
في هذا السياق، يتصل العمل بتيارات فكرية نسوية عالمية مثل أطروحات (مايا أنجلو) التي رأت في الجسد المعذّب نبوءة الحرية، وفي الصبر صرخةً مؤجلة. إذ حين ترقص أجساد الممثلات، لا يرقصن فقط ضد القمع، بل يرقصن معه، كأنهن يقلن له: أنت جزءٌ من تاريخنا، وسنحوّلك إلى رقصةٍ تليق بنا. بهذا المعنى يتحول القمع ذاته إلى مادةٍ جمالية، إلى طاقةٍ خلاقةٍ يعيد العرض تشكيلها لتصبح وعيًا جديدًا بالذات.
العرض الذي اختير بعناية ضمن فعاليات الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح مثّل علامة فارقة في برمجته، إذ جاء ليؤكد أن مسرحنا قادر على استقبال التجارب العالمية دون أن يفقد هويته، بل ليحوّلها إلى حوارٍ حيّ بين الثقافات. فاختيار هذا العمل المتميز لم يكن اختيارًا فنيًا فحسب، بل رؤيةً جمالية تؤمن بأن الحرية تبدأ من الجسد، وأن الفن هو اللغة التي لا تُترجم بل تُعاش.
( حديقة الهسبريدس) في بغداد لم تكن مجرد عرض، بل كانت مرآةً كونيةً ترى فيها الإنسانية ملامحها المنسية، وجرحها المشترك، ورغبتها الأبدية في الانعتاق.
هذا العرض يخرج من المسرح ليسكن في الذهن كقصيدةٍ طويلة لا تنتهي، قصيدةٍ تشبه ما كتبه محمود درويش:(على هذه الأرض ما يستحق الحياة، على هذه الخشبة ما يستحق أن يُعاد خلقه)
هي ليست عرضًا فحسب، بل تأملٌ في الوجود، في الذاكرة، في الجسد الذي يرفض أن يُمحى، ويصرّ أن يكون كتاب الحرية الأول. في زمنٍ تُختزل فيه الكينونة في الصورة، يأتي هذا العرض ليعيد للجمال جوهره الفلسفي، وليقول إن المسرح، حين يرقص، إنما يكتب شعر الحياة نفسه، بجسدٍ يتذكّر أسطورته، وبأسطورةٍ تنزف في جسدها.



