
سامان بريفكاني
كاتب
من بغداد إلى أربيل.. تجربتان بين العجز والإنجاز

كنت هناك، أتمشى في شوارع بغداد التي تعرف وجعها أكثر مما تعرف أسماء مرشحيها، مدينةٌ تتنفس السياسة كما يتنفس الناس الغبار، وتعيش حملة الانتخابات كقدرٍ لا فكاك منه. حيث القاتل والفاسد يرفعون أيديهم باسم الديمقراطية، بينما الميليشيات تتحكم في المفاصل والمال السياسي يشتري الولاء قبل الضمير.
كنتُ في بغداد، ورأيتُ أكثرية الوجوه الفاسدة تملأ الأرصفة، كل صورةٍ منها رواية عن خيانة وطن، وكل ابتسامةٍ فيها سخرية من وجع الناس.
رأيتُ مدينة تتحدث باسم الدولة لكنها لا تملك من الدولة سوى اسمها. هناك حيث يتحدثون عن الديمقراطية بينما يسكن الرعب في القلوب، وحيث يُرفع صوت الحرية فوق أرضٍ لا حرية فيها إلا لمن يحمل السلاح. كان المشهد خليطًا من الإنهاك واليأس، كأن بغداد تُعيد كتابة مأساتها في كل حملة انتخابية، كأنها تعيش داخل دائرةٍ مغلقة لا تعرف مخرجًا سوى إلى الخراب.
كنت في بغداد أتمشى بين جدرانٍ مكتظة بالصور والوعود، فهالني ما رأيت. صورة كل ناخب كانت موجودة تحت صورة زعيمه الفاسد، كأن الولاء الشخصي أصبح دينًا جديدًا، وكأن المواطن لم يعد يُنتخب ببرنامجه ولا بكفاءته، بل بقدر ما ينحني لصاحب السلاح. وجوه المرشحين تتشابه، أغلبيتها تبتسم بابتسامةٍ مزيّفة تفضحها العيون وتحمل خلفها تاريخًا من الخيانة أو الصمت أو التواطؤ. كأن بغداد تحولت إلى معرضٍ كبير لوجوهٍ فقدت الحياء، تُطلّ من فوق الجدران على شعبٍ يعرف حقيقتها لكنه مجبرٌ على احتمالها.
في تلك المدينة التي أنجبت الحضارة، أصبح المزوّر مرشحًا والميليشيات المسلحة تتقدم الصفوف بثقة المنتصر. الثروات تُنهب أمام الأعين، والفقر مدقع يلتهم أحلام الناس، والطائفية تسمم العقول حتى بات الانتماء للدم أقوى من الانتماء للأرض. لا شيء يُبنى فوق هذا الخراب سوى مزيدٍ من الخراب، ولا ديمقراطية تنبت في تربةٍ سقوها بالفساد والرصاص.
عندما رجعتُ إلى كوردستان، شعرتُ أنني عبرتُ من العتمة إلى الضوء، ومن الفوضى إلى النظام، ومن الكذب إلى العمل. هنا رأيتُ الرقي والانتظام والجمال، الشوارع نظيفة، المؤسسات تعمل، والوجوه المرشحة تحمل شيئًا من الاحترام، أغلبها أناس كفوؤون يعرفون معنى المسؤولية ويؤمنون أن السياسة ليست غنيمة. هنا لا تُسمع أصوات البنادق، بل أصوات الناس وهي تمارس حياتها بكرامة. الانتخابات في كوردستان ليست موسمًا للتهديد والابتزاز، بل خطوة في طريقٍ طويل نحو الاستقرار والبناء، خطوة تحرسها الإرادة لا الميليشيات.
في كوردستان، تتجلى الفكرة البسيطة أن الدولة يمكن أن تكون بيتًا للناس لا سجنًا لهم، وأن السياسة يمكن أن تكون مهنة شريفة لا طريقًا للنهب والدم. هنا تتقدم التنمية على الشعارات، ويُقاس المسؤول بعمله لا بقدرته على المساومة، وتُكتب الديمقراطية بهدوء كما تُكتب القصائد الجميلة، بلا ضجيج ولا دماء. رأيتُ شعبًا يعرف أن الأوطان تُبنى بالعمل لا بالوعود، وأن الكرامة لا تأتي من خطب السياسيين، بل من جهد العامل والفلاح والمعلم والموظف الذي يؤدي واجبه بإخلاص.
ويبرز الحزب الديمقراطي الكوردستاني في هذا المشهد كقوةٍ تعرف معنى البناء، يد تبني ويد تعمل بكدٍ وإخلاص، يؤمن بالاستقرار لا بالصراع، وبالمؤسسات لا بالفوضى، وبالإنسان قبل الشعار. البارتي من خلال مشاريعه ومبادراته، منح للإقليم وجهًا حضاريًا يليق بتاريخه، وفتح أبواب التطور في التعليم والاقتصاد والإدارة، ليكون نموذجًا لما يمكن أن يكون عليه العراق لو أراد أن ينهض من رماده. الحزب الديمقراطي لا يرفع راية الانقسام بل يعمل من أجل توازنٍ سياسي يحفظ كرامة كوردستان ويُعزّز حضورها داخل عراقٍ لا يمكن أن يستقيم إلا بعد أن يشفى من أوجاعه القديمة.
هنا في أربيل تدرك أن المستقبل ليس وعدًا يُقال في الخطب، بل جهدٌ يومي يخطّه الناس بأيديهم، وأن الديمقراطية الحقيقية لا تحتاج إلى سلاحٍ يحرسها، بل إلى ضميرٍ يؤمن بها. ومن هناك ترى الفرق واضحًا بين من يعيش على فتات الدولة ومن يصنع الدولة، بين من ينهب الثروات ومن يعمّر الأرض، بين من يُسمم العقول بالطائفية ومن يُغذيها بالأمل والمعرفة.
العراق اليوم يقف بين صورتين متناقضتين، بغداد التي تغرق في ظلال الفساد والسلاح، وكوردستان التي تمشي بخطى ثابتة نحو البناء. وفي هذا التناقض تكمن الحقيقة الكبرى: أن الأوطان لا تُبنى بالقوة، بل بالإخلاص، وأن السياسة ليست ميدانًا للدماء، بل ممرًا إلى حياةٍ تليق بالبشر. فحين تُغلق الصناديق، يبقى صوت الضمير هو الفارق بين من يريد أن يحكم، ومن يريد أن يخدم. وكوردستان، كما عهدناها، اختارت أن تخدم، وأن تبني بيدٍ نظيفة ووطنٍ مفتوحٍ على المستقبل.
مع هذا.. تبقى بغداد، رغم كل ما يعتريها من وجعٍ وانقسام، مدينة لا تموت فيها البذرة مهما أثقلها الرماد ووعاصمة مهما انحنت أمام العاصفة، تعود في لحظةٍ ما لترفع رأسها نحو الشمس. من بغداد المرهقة التي تُعيد تدوير خيباتها، إلى كوردستان التي تزرع الأمل بيدٍ عاملة وعقلٍ مؤمن بالنهضة، يمتد خطٌ طويل من التناقض، لكنه أيضًا خيط الأمل الأخير الذي لم ينقطع بعد. فربما في رصانة التجربة الكوردستانية ما يذكر العراق بأنه ما زال قادرًا على النهوض، وأن الدولة لا تُصنع بالرصاص، بل بالعقل والإرادة والإخلاص.
وفي النهاية، سيبقى الفرق واضحًا بين من يرفع يده للنهب، ومن يمدّها للبناء، وبين من يورّث الحروب، ومن يورّث الحلم. وكوردستان، في صمتها الجميل وعملها الدؤوب، تكتب الدرس كما يجب أن يُكتب، أن النور لا ينتصر بالصوت العالي، بل بالفعل الصادق.