روح الدستور الغائبة: أزمة الشراكة والتوازن والتوافق في العراق

روح الدستور الغائبة: أزمة الشراكة والتوازن والتوافق في العراق
روح الدستور الغائبة: أزمة الشراكة والتوازن والتوافق في العراق

منذ إقرار الدستور العراقي عام 2005، عاش العراقيون لحظة أمل في أن يكون هذا الدستور عقدًا وطنيًا جامعًا، يؤسس لدولة اتحادية عادلة تقوم على مبدأ الشراكة والتوازن والتوافق بين المكونات. كان المقصود أن تتحول هذه المبادئ إلى ركائز صلبة تُعيد للعراق توازنه السياسي، وتضمن توزيع السلطة والثروة بعدالة، وتحمي حقوق جميع المواطنين. لكن ما يقارب العقدين، ظل الدستور حاضراً في الشعارات، غائباً في التطبيق، تاركاً الدولة في فراغ دستوري يُغذي الأزمات ويعمّق الانقسامات.

جذر الأزمات التي يعيشها العراق سياسيًا واقتصاديًا وإداريًا يعود إلى غياب الإرادة لتطبيق الدستور بنصّه وروحه معًا. فقد جرى انتقاؤه أو تعطيله وفق مصالح ضيقة وأجندات فئوية، فأُجهضت الشراكة الوطنية، وتحول التوافق إلى محاصصة، وأصبح التوازن بين السلطات مجرد شعارات تتلاشى أمام الهيمنة والولاءات الحزبية. لم تُفعل المواد الخاصة بتوزيع الصلاحيات بين المركز والأقاليم، ولم تُطبق أسس العدالة في مؤسسات الدولة، مما جعل السلطة التنفيذية تتفرد، والبرلمان يتحول إلى أداة صفقات، والقضاء إلى طرف في النزاعات، بينما المواطن يتراجع دوره كحامل للسيادة الحقيقية للدولة.

الدستور لم يكن مجرد نص قانوني، بل مشروع دولة أراد له العراقيون أن يكون نموذجًا في إدارة التنوع، وضمان العدالة، وحماية الحقوق. لكن غياب روح الدستور – روح الشراكة والتوازن والتوافق – جعل النظام السياسي يميل إلى التفرد، وغيّب العدالة، وأضعف مؤسسات الدولة، وانهارت الثقة بين المواطن والسلطة. أي دولة تُدار بلا دستور أو بلا احترام حقيقي له، تفقد تدريجيًا سيادتها الداخلية وتصبح عاجزة عن حماية قرارها المستقل على الصعيد الخارجي.

وفي ظل التحولات الإقليمية العميقة، حيث تعيد دول الجوار رسم أولوياتها الأمنية والاقتصادية والسياسية وفق مصالحها الوطنية، يقف العراق في موقف المتفرج أكثر من الفاعل. الانقسام الداخلي، ازدواجية القرار، والتبعية الخارجية، كلها نتائج طبيعية لتعطيل الدستور ولتفريغ الفيدرالية من مضمونها الحقيقي. الفيدرالية ليست تجزئة للوطن، بل تنظيم للسلطة، وهي جوهر العدالة السياسية حين تُمارس بروحها، لا بتفسيرات انتقائية تُقصي وتهمش.

إن استمرار تعطيل الدستور لا يعني مجرد إخفاق قانوني، بل هو هجوم متدرّج على السيادة الوطنية، يجعل الدولة عاجزة عن حماية مصالح مواطنيها، ويجعل القرار السياسي رهين المصالح الفئوية والضغوط الإقليمية. الإصلاح الحقيقي يبدأ بإرادة سياسية واضحة تعيد للدستور مكانته العليا، وتضع الشراكة والتوازن والتوافق كمعيار لأي قرار حكومي. غياب هذه الروح يضاعف الفراغ القانوني، ويفتح المجال للتدخل الخارجي، ويضعف الدولة أمام التحولات الإقليمية ومطامع القوى الكبرى. استعادة العراق المستقر لا تتحقق إلا عبر تفعيل نصوص الدستور وروحه معًا، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس العدالة والمواطنة، بعيدًا عن المحاصصة والهيمنة. بهذا المعنى، يصبح احترام الدستور ليس مجرد واجب قانوني، بل مشروع دولة قائم على السيادة والقوة الوطنية الحقيقية.

وقد أكد الحزب الديمقراطي الكوردستاني في رؤيته السياسية أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من العودة إلى الدستور، لا بتعديله بل بتفعيله. فالعودة إلى مبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية، وإلى التوازن بين السلطات، وإلى التوافق الذي يحمي التنوع ولا يقصيه، هي الطريق الوحيد لبناء عراق ديمقراطي اتحادي، قوي بسيادته، مستقر بإرادته، وعادل في توزيع سلطاته وثرواته. إن الحزب يؤمن بأن العراق لا يمكن أن ينهض إلا حين تُصبح الدستور أقوى من الأحزاب، والقانون أقوى من النفوذ، وأن احترام الدستور ليس مجرد التزام قانوني، بل إرادة وطنية تُعيد للدولة هيبتها وتضمن مستقبل شعبها.

العراق لا يحتاج إلى دساتير جديدة، بل إلى إرادة جديدة تطبّق ما كُتب بإجماع شعبه. فالتاريخ لا يرحم الدول التي تُفرّط بعقودها الدستورية، ولا الشعوب التي تسكت عن تعطيل إرادتها. إن احترام الدستور وتفعيل مبادئ الشراكة والتوازن والتوافق هو الضمان الحقيقي لوحدة الدولة وسيادتها، وهو الطريق الذي يدعو إليه الحزب الديمقراطي الكوردستاني لبناء عراق اتحادي ديمقراطي يليق بتضحيات أبنائه وتاريخه العريق.