مسرحية ( رقصة النسيج - Neythe) .. الهوية الهندية والجسد المعاصر في نول الهُجنة

مسرحية ( رقصة النسيج -  Neythe) ..  الهوية الهندية والجسد المعاصر في نول الهُجنة
مسرحية ( رقصة النسيج - Neythe) .. الهوية الهندية والجسد المعاصر في نول الهُجنة

في عالم يتسارع فيه كلّ شيء حدّ التبخّر، تقف بعض العروض الفنية بوصفها لحظات مقاومة ضدّ الزوال. هكذا بدا لي عرض (نيتهِي -  Neythe)  أو (رقصة النسيج)  للمخرجة والراقصة الهندية ريمة كالنغال ، كما لو أنه حقلٌ من الخيوط المشدودة بين الماضي والمستقبل، بين اليد التي تغزل، والجسد الذي يرقص، والروح التي تتأمّل. في هذا العرض الذي قُدّم في الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح للمدة ١٠-١٦ \ ١٠  \ ٢٠٢٥   وحصل على جائزة أفضل عرض متكامل، لم يكون الرقص احتفالاً بالجمال فقط، بل دعوة لتأمّل الجمال بوصفه موقفًا أخلاقيًا ومعرفيًا من الوجود.

في فضاء مسرح الرشيد، حيث تحول الجسد إلى نص مكتوب، والضوء إلى شعر، وأصبحت الحركة مقطوعة موسيقية لا تنتهي، ظهر هذا العرض كتحفة تنسج بين الماضي والحاضر، بين التراث الكاتاكالي الملحمي والحداثة في الرقص المعاصر. 

المخرجة تعاملت بخبرتها العميقة وفهمها للسيميائية المسرحية، مع الفكرة باعتبارها نسقًا متكاملًا للجمال والفكر، للمقاومة والهجنة، للذاكرة والهوية. ولم يكن هدفها مجرد إعادة تقديم تقنيات الرقص التقليدي، بل إعادة صياغة كل حركة، كل دوران، وكل ميل للجسد ليصبح حاملًا للمعنى، وسفيرًا للهوية الثقافية والتاريخية. الفكرة الأساسية التي تدور حول رحلة الخيط من النول إلى القماش، تم توظيفها كـ رمز حي للنسج الثقافي، وللترابط بين الماضي والحاضر، بين الفرد والجماعة، بين الحركة والفكر . 

في الاستهلال أعتمد العرض مبدأ (الازدواج الوسائطي). حيث عرضت المخرجة فيلميا" وثائقيأ" عن صناعة النسيج في الهند وبالتحديد في الولاية التي تعرضت الى اضرار كبيرة في معامل النسيج بعد الفيضانات التي اجتاحت البلاد عام 2018.  لقطات الفيديو المأخوذة من الورش ، أستعيرت في تصميم الرقصات حيث تزامنت مع حركات حيّة تستعيد الإيماءات الدقيقة للعامل/العاملة في تركيبة عمليات النسج  فالعرض ينقسم إلى ثمانية مشاهد/مراحل، تعكس دورة صناعة النسيج التقليدي: الغزل، الصباغة، التجفيف، التمشيط، تركيب النول، النسج، الكيّ، ثم الارتداء. كل مرحلة تُعرَض بلغة جسدية دقيقة، تتنقّل بين الإيماءة والطقسية، بين التكرار والانفلات، في سرد صامت يُغني عن الكلام. ولا تنزلق الحركات إلى التمثيل المباشر، بل تتّخذ شكل استعارات جسدية: الدوران في الغزل يحاكي خلق الزمن، والارتداء في النهاية يُحيل إلى عودة الإنسان إلى ذاته، بعد أن يُعيد تشكيل جسده كنسيجٍ متعدّد الطبقات.

هذا التشابك بين (المرجع) و(المُمَسرَح) حوّل الخشبة منذ الوهلة الأولى إلى مختبر رؤيةٍ: نحن لم نشاهد تمثيلًا للنسج فحسب، بل شاهدنا كيف يُستعاد الواقع كإيقاعٍ جسديّ

الراقصون، ضمن هذا التوجه، لم يكونوا منفذين آليين للحركة، بل شركاء في التعبير، مشاركين في صناعة المعنى، وفاعلين في خلق فضاء هجيني متكامل. كل حركة للذراع، كل دوران للجسم، كل إيماءة للعين، كانت نسخة مترجمة للفكرة، ومواصلة لرحلة الخيط الرمزية. وبهذا، أصبح الجسد ليس مجرد أداة للرقص، بل أرشيف حي للذاكرة الجماعية والفكرية، ووسيلة مقاومة ضد الهيمنة الرمزية والثقافية. 

المخرجة وفريق الراقصين نجحوا في خلق لغة جسدية هجينة، تتداخل فيها الرمزية التاريخية مع الإيقاعات المعاصرة، لتصبح كل حركة حاملة لمعنى مزدوج، فكري وجمالي، فردي وجماعي، تقليدي ومعاصر.

الصوت والإيقاع، المستمدان من النول، كانا عنصرين مركزيين في هيكلة الأداء، حيث تتحرك الحركات على وقع كل نغمة، وكل توقف، لتخلق نسقًا موسيقيًا وجماليًا متكاملًا، يعكس رحلة الخيط من اليد إلى القماش، ومن الماضي إلى الحاضر، ومن الفكرة إلى الجسد. الموسيقى لم يغدو مجرد خلفية، بل أداة تنظيمية للفعل المسرحي، تمنح الحركة أبعادًا زمنية وفكرية، وتخلق توترًا جمالياً يتناغم مع الفكر الهجيني الذي يحمله العرض. الموسيقى والإيقاعات، المستمدة من صوت النول والعملية التقليدية للنسج، أرتبط أبداعيا" بحركات الراقصين بشكل كان يجعل كل خطوة نسقًا معنويًا وجماليًا، يعكس تفاعل الفكر والفن.

 اما الزي، الذي صُمم بعناية فائقة، لم يكن مجرد لباس لتغطية الجسد، بل نص بصري، ومجموعة من الرموز السيميائية التي تُعبر عن الذاكرة الثقافية والفكرية للعرض. الألوان، الطبعات، والخيوط المتداخلة، جميعها عملت على تعزيز التوتر بين التقليدي والمعاصر، وبين الفرد والجماعة، وبين الماضي والحاضر. الزي، جنبًا إلى جنب مع الحركة والإيقاع، خلق فضاءً متكاملًا من المعنى ، حيث أصبح كل عنصر من عناصر العرض حاملًا لتجربة هجينة، تتفاعل مع الجمهور وتدعوه للمشاركة في إعادة صياغة المعنى.

الجمهور في مهرجان بغداد الدولي للمسرح لعب دورًا محوريًا في تجربة العرض. لقد كان شريكًا فاعلًا في نسج المعنى، حيث كل نظرة، كل صمت، كل تصفيق، أصبح جزءًا من النسق التفاعلي للعرض. هذا المستوى من التلقي جسد وعي الجمهور بجماليات العرض، وذائقته العالية، وقدرته على قراءة الرموز، وفهم البنية الفكرية للجسد والحركة. التفاعل بين الجمهور والمسرح، بين المتلقي والمخرجة، وبين الحركة والفكرة، خلق حلقة مستمرة من إنتاج المعنى، حيث تتشكل الهويات الثقافية الجديدة في فضاء مسرحي حي.

والهجنة الثقافية، كما يوضح هومي بابا *، ليست مجرد تداخل سطحي بين ثقافتين، بل هي مساحة ثالثة تُنتج فيها الهويات الجديدة من خلال التفاعل بين العناصر المختلفة. 

في  Neythe(رقصة النسيج)   ، تتحقق هذه الهجنة عبر الجسد، الصوت، الإيقاع، والزي، حيث يتم إعادة تشكيل الهوية الثقافية والتاريخية من خلال الأداء. هذا النسق الهجيني لا يعكس فقط التفاعل بين التقليد والحداثة، بل يعبر عن المقاومة الفكرية والثقافية للهيمنة التاريخية والسياسية، وهو ما تؤكده ريشا موهان * ، في تحليلها للجسد المسرحي في المسرح الآسيوي، حيث ترى أن الجسد فضاء للتعبير عن التاريخ، الثقافة، والهوية، وأداة للتفاوض مع السلطة.

وأيضا" يؤكده  بول إدواردز *، في أن الفعل المسرحي يمكن أن يتحول إلى أداة للمقاومة الثقافية والسياسية.

 نعم هذا ماتجسد في  (رقصة النسيج)  ، حيث كان تحرك الجسد ليس فقط وفق القانون الحركي للرقص، بل وفق منطق المقاومة المعرفية والفكرية،الذي يتصارع مع الهيمنة الثقافية، ويصبح حاملًا للهوية والفكر والمقاومة. كل دوران، كل ميل، وكل توقف في الحركة كان يمثل فعلًا مقاومًا ومؤشرًا على قدرة المسرح على التعبير عن الهويات المهجنة، وتوليد تجربة فكرية وجمالية متكاملة.

فلقد أغتنت الكوريغرافيا بعناصر مستمدة من الرقص الكلاسيكي الكاتاكالي*، ولكنها تجاوزت حدوده بتفكيكه في لغة معاصرة تتكئ على البساطة والفراغ. هذا التناصّ الحركي بين الكلاسيكي والمعاصر خلق بنيةً جسدية هجينة ، إذ يصبح الجسد مساحة تفاوض بين الموروث والمستحدث، بين المحلي والعالمي، بين ما فُرض من الخارج وما يُعاد ترميمه من الداخل. 

فكل حركة هي إعادة تأويلٍ لذاكرةٍ استعمارية، وكل إيماءةٍ هي عودةٌ إلى الذات المنفية. وهكذا تقف (رقصة النسيج) لترد بالأيجاب أمام ماطرحته الناقدة الهندية غاياتري سبيفال*  الذي يبدو وكأنه  نوع من الاستفهام الاستنكاري:   هل يستطيع التابع ان يتكلم؟ وهل لمن هم في موقع التهميش خارج البنى الثقافية والسياسية السائدة أن يعبروا عن أنفسهم ؟

ففي تكوين هذا العرض ، نجد أن المخرجة كالينغال لم تشتغل على الكوريغرافيا بوصفها زينةً بصرية، بل بوصفها دراماتورجيا للجسد. لقد أحالت الحركة إلى فكر، والفكر إلى صمتٍ متوترٍ بين ما يُقال وما يُخفى. الجسد لم يعد أداة تعبيرٍ عن النص، بل صار هو النص نفسه، نصّاً يكتب التاريخ بوسيلة غير لغوية، ويحوّل الذاكرة الاستعمارية إلى طقس تطهيريّ تحرريّ يستخرج الجمال من بطانة الألم، من صوت المطر فوق سقف ورشة مهدّدة، ومن خيوطٍ تُسحب بصمت من جسد الحضارة. 

في بنية الإخراج، يتداخل السينوغرافيا بالضوء والموسيقى في نسيجٍ متكامل. الضوء هنا ليس إضاءةً تقنية، بل لغةٌ سردية توازي الحركة. حين يهبط الضوء إلى مستوى الأرض، تتجسد الأرض كأنها الجسد الأم، وحين يصعد الضوء إلى سقف المسرح، يُحاكي الفكرة الصوفية في الارتقاء والتحرر.

العرض، في تأويله الأعمق، هو كتابةٌ فلسفية في معنى “النسيج” كفعلٍ وجوديٍّ ومجازٍ أنثويٍّ مقاوم. فالنسيج هو الجمع بين المختلف، هو محاولةٌ لخلق وحدةٍ من التعدد، وهو في ذاته فعل مقاومةٍ ضد التفكك والهيمنة. وهكذا يتحول النول إلى استعارةٍ للوجود ذاته: كل خيطٍ هو مصير، وكل تشابكٍ هو حوار، وكل نسيجٍ هو وطنٌ يُعاد ترميمه بالحركة.

من منظور مسرح ما بعد الكولونيالية، يمكن قراءة (رقصة النسيج) كخطابٍ جماليٍّ يسعى إلى إعادة الاعتبار للجسد المحليّ في مواجهة الميتافيزيقا الغربية للجمال. فالعرض لا يستنسخ الحداثة الغربية، بل يخلق حداثته الخاصة، نابعة من الأرض، من الذاكرة، من الحرف. إنه يقلب المعادلة الكولونيالية التي حوّلت الجسد الشرقي إلى موضوعٍ للفرجة، ليجعل منه ذاتاً فاعلة تُعيد النظر في معنى النظر ذاته. الجسد في هذه المسرحية  ليس موضوعاً للعرض، بل هو ناظِرٌ، يُعيد تعريف المتلقي كمشاركٍ في الطقس لا كمراقب خارجيّ.

هذا التحول الجمالي يجعل العرض أقرب إلى مسرح الصورة في مقاربته البصرية، حيث تُغدو الحركة لوحةً تشكيلية متحركة، والجسد لوناً، والفضاء قماشةً تُرسم عليها دلالات الذاكرة. في لحظاتٍ معينة، يصبح المشهد أقرب إلى تركيبٍ فنيٍّ حي، بين النحت والرقص والرسم، في ما يشبه فلسفة الجمال عند أدونيس * حين يقول إن الشعر لا يُقال بالكلمات وحدها، بل يُنحَت في الجسد، في الضوء، في العزلة.

في العرض كذلك إشاراتٌ خفية إلى الذاكرة الأنثوية كموقعٍ للمعرفة البديلة. المرأة ليست رمزاً للضحية، بل هي صانعةُ المعنى، “النسّاجة” التي تحفظ العالم من التفكك. الجسد الأنثوي هنا هو النول، هو الأصل، هو ما يمنح للزمن استمراره. هذا التأويل يعيد قراءة التاريخ من منظورٍ مغايرٍ لمركزية الذكر، ليصبح الجسد الأنثوي ذاكرة جماعية، ومقاومة جمالية تتحدى مفاهيم السيطرة والاستعباد.

غير أنّ الجمال الكبير  ل(رقصة النسيج-  Neythe)  لا يجب أن يُعفيه من النظر النقدي: لقد نجح العرض في بناء عالم بصري دافق بالشعر، لكنه لم يذهب بعيدًا بما فيه الكفاية في تفكيك العالم الذي يعارضه. لحظاته الأقوى هي تلك التي سكنها الصمت والتوتر لا الحركات البديعة فقط، وتلك التي شعرت فيها الأجساد بثقل ما تصنعه، لا فقط بنعومته.

وقد كان حضور تأثيرات رقصة الكاتهاك (بخاصة في تعبيرات الوجه والدورانات) إضافة غنية، لكنها ظلت مشروطة بحسّ انتقائي لم يُفجّر طاقاتها الرمزية كاملة. إذ كان بالإمكان توسيع مساحات الاشتباك بين الجسد المعاصر والجسد التقليدي بشكلٍ أكثر جرأة، بدل الانزياح أحيانًا نحو توحيد الحركة، الذي أفقد بعض المشاهد خصوصيتها الوجدانية.

وكذلك فإنّ نقد الحداثة داخل العرض ظلّ رمزيًا أكثر منه فعّالًا؛ لم تُحضر التكنولوجيا كخصم حقيقي، بل كظلّ بعيد، وكأنها تهديد غامض، لا واقع ينهش.

ورغم انه يُحسب للعمل اتساقه البصري: التناغم بين الإضاءة واللون والصوت والخطوة. ومع ذلك، فإنّ هذا الانسجام المفرط نفسه يُطرح كإشكال جمالي. ففي لحظات، خفتَ التوتر الداخلي للعمل، وبدا وكأن الرقصة(جميلة أكثر من اللازم )، ما يقلّل من أثرها التحريضي. الجمال هنا لم يكن دومًا صادماً، بل مُهدّئًا- وفي عمل موضوعه هو المقاومة، ربما كان يجب أن يُكسر هذا الانسجام أحيانًا ليولد الصراع.

في الجلسة النقدية التي قُدّمت ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح ، أشار الدكتور ياسر البراك إلى أن العرض يقدّم “جمالية المعرفة الحسية”؛ أي أن الإدراك الجمالي فيه يتأسس على التلامس والتفاعل، لا على المشاهدة فحسب. فالنسيج ليس فكرة مجردة، بل فعلٌ جسديٌّ حقيقيّ، والمسرح هنا يصبح امتداداً لذلك الفعل، فيتحول الجمهور إلى جزءٍ من العملية النسيجية الكبرى. هذه الرؤية تنقلنا إلى عمق فلسفة المسرح ما بعد الكولونيالي التي ترى أن المقاومة تبدأ من إعادة تعريف العلاقة بين الجسد والفضاء والمعنى.

بهذا المعنى، يصبح (رقصة النسيج-  Neythe)  أكثر من عرضٍ فنيٍّ، إنه بيانٌ وجوديٌّ مكتوب بالخيوط والإيماءات. عرضٌ يحتفي بالهوية لا بوصفها سجناً، بل كمساحةٍ للحوار، ويحتفي بالجسد لا كموضوعٍ للرؤية، بل كأداةٍ للمعرفة والتحرر. في كل لحظةٍ من لحظاته، يتقاطع الفن بالحياة، ويتحوّل المسرح إلى حقلٍ لإعادة كتابة التاريخ، لا بالحبر، بل بالعرق والحركة والنَفَس. فهو عرضٌ يتجاوز التوصيفات الجاهزة: لا هو رقصٌ خالص، ولا هو دراما تقليدية. إنه تجربة حسية وفكرية وشعرية في آن، تذكّرنا بأن الفن ليس تمثيلاً للواقع، بل خلقٌ لعالمٍ موازٍ أكثر صدقاً من الواقع ذاته. عالمٍ ينهض من جسد الراقصة الهندية التي جعلت من النول مسرحاً، ومن الخيوط أفقاً، ومن الجسد بياناً.

في الختام، يمكن القول إن (رقصة النسيج-  Neythe)   هو قصيدة مقاومة منسوجة على نول الجسد، عرضٌ يمتح من تراث الكاتاكالي، ويتكئ على فلسفة ما بعد الكولونيالية، ليخلق جمالياتٍ جديدة للجسد الأنثوي بوصفه مساحةً للحرية، وحضرةً للمعرفة، ومجازاً للوطن الذي يُعاد نسيجه من رماد الذاكرة. حيث تُخرِجُ كالنغال (قصيدة النول) من الورشة إلى المسرح، ومن اليوميّ إلى الجماليّ، ومن الحرفة إلى السياسة الثقافية. 

لقد جاء العرض في بغداد كمرآةٍ مزدوجة: واحدةٌ تعكس ذاكرةً بعيدة، وأخرى تحدّق في واقعٍ هشّ يتآكل من الداخل. هناك، لم يكن الرقص مجرّد حركةٍ عابرة، بل فعلًا فلسفيًّا عميقًا يستعيد الإنسان به صلته بجسده، بإيقاع العالم البطيء الذي أوشك أن يُمحى، وبحرفته التي تتوارى خلف صخب الحداثة، وبهويةٍ تتكوّن من تفاصيل صغيرة تَبدو للعين عابرة، لكنها تَحمل سرّ البقاء.

إن هذا العرض لا يُشاهَد فحسب، بل يُرتدى في الذاكرة كقماشٍ حيّ يحتضن الزمن ويعيد للحياة نبضها الأول. إنه يفتح في وعينا شقًّا مضيئًا بين ما يُنسى وما يُستعاد، بين الإنسان كفاعلٍ في التاريخ والإنسان كمجرد ظلّ له. في عمق هذه اللحظة، تتحول الجمالية إلى معرفة، والمعرفة إلى مقاومة صامتة، والمقاومة إلى فعل وجوديّ يُصرّ على البقاء في وجه التلاشي.

هنا، يصبح المسرح ليس مجرد فضاءٍ للعرض، بل مساحةً لفهم أعمق للعالم: كيف تتداعى الهويات حين تنقطع عن جذورها، وكيف يمكن لفعلٍ فنيٍّ بسيط أن يوقظ ذاكرة جمعيّة، ويمنح الحاضر ثقله الأخلاقي. إنه إعلانٌ هادئ بأن ما يُحاك في الخفاء من خيوط صغيرة، قد يكون أكثر صدقًا من كلّ الشعارات الصاخبة.

 

* مراجع وهوامش:

*1-  بابا، هومي. الهجنة الثقافية: الهوية والاختلاف في ما بعد الكولونيالية. ترجمة: محمد عناني. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2003.

*2 إدواردز، بول. المسرح كفعل مقاومة: مقاربات ما بعد الكولونيالية في الأداء المعاصر. نيويورك: بالغريف ماكميلان، 2016

*3 موهان، ريشا. الرقص كهوية: قراءة في جسد ما بعد الكولونيالية في المسرح الآسيوي. لندن: روتليدج، 2021

*4 سعيد، إدوارد. الاستشراق: المعرفة، السلطة، والهيمنة. ترجمة: محمد عناني. القاهرة: دار الشروق، 2001.

 *5 سبيفاك، غياتري. هل يستطيع التابع أن يتكلم ؟ ترجمة خالد حافظي 2020.

*6 أدونيس . أحتفاء بالأشياء الغامضة الواضحة- دار الآداب 1988.

*7 د.ياسر البراك. المسرح الأنثربولوجي الراقص من منظور مابعد كولونيالي. ورقة نقدية مقدمة ضمن فعاليات المهرجان.15. 10 . 2025. 

*8 الكاتاكالي ، هي واحدة من الأشكال الثمانية الرئيسية للرقص الهندي الكلاسيكي والأسم  تعني (الشخص الذي يروي قصة) , حيث يحكي راقصو الكاتاك القصص المختلفة من خلال حركات اليد والقدمين، و تعابير الوجه.