كوليزار رشيد
كاتبة
إشكالية النفط بين حكومة إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية
تُعدّ إشكالية النفط بين حكومة إقليم كوردستان والحكومة الاتحادية في بغداد من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في تاريخ العراق الحديث. فمنذ عام 2003، تحوّل النفط من مورد اقتصادي إلى محور صراع سياسي ودستوري يعكس عمق الإشكال في العلاقة بين المركز والإقليم، وبين مفهوم الدولة المركزية والدولة الفدرالية. هذه القضية ليست مجرد خلاف مالي حول العائدات، بل هي تجسيد لصراع حول من يملك القرار والسيادة على أهم ثروة في البلاد.
بدأت جذور الخلاف بعد إقرار الدستور العراقي عام 2005، حين تباينت قراءات الطرفين لمواده المتعلقة بالنفط والغاز. فالحكومة الاتحادية رأت في المادة (111) تأكيدًا على أن النفط والغاز ملك للشعب العراقي بأجمعه، وأن إدارتهما يجب أن تكون مركزية بيد الحكومة الاتحادية. أما حكومة الإقليم، فاستندت إلى المادتين (112) و(115) اللتين تتيحان مشاركة الأقاليم في إدارة الموارد بشكل مشترك، بل تمنحانها الحق في إدارة ما لم يُنص عليه كاختصاص حصري للحكومة الاتحادية. هذا التباين في الفهم أدى إلى تضارب في الصلاحيات وتنازع على القرار التنفيذي.
ثم تصاعد الخلاف حين بدأ الإقليم بتصدير نفطه بشكل مستقل عبر ميناء جيهان التركي، معتبرًا أن له الحق في تسويق موارده مباشرة لضمان استقراره الاقتصادي. في المقابل، طالبت بغداد بأن تُسلم جميع الإيرادات النفطية إلى الخزينة الاتحادية، ليجري توزيعها وفق النسب المحددة في الموازنة العامة، والتي كانت تقدر بحوالي 12.67% لإقليم كوردستان. ومع تعثر تنفيذ هذه الآلية، تراكمت الديون، وتوقفت التحويلات المالية، ما أدخل الطرفين في أزمات مالية وسياسية متكررة.
ورغم أن الإشكالية تبدو اقتصادية في ظاهرها، فإن عمقها سياسي ودستوري. فالعراق، رغم تبنيه النظام الفدرالي، لم يطبق فعليًا مبادئ الفدرالية في توزيع السلطات والثروات. ولا تزال بغداد تميل إلى المركزية في الإدارة، بينما يرى الإقليم أن الدستور منحه خصوصية قانونية وسياسية لا يمكن تجاهلها. كما أن الخلاف حول تطبيق المادة (140) الخاصة بالمناطق المتنازع عليها زاد من حدة التوتر بين الطرفين، خاصة في كركوك والمناطق الغنية بالنفط.
إن حل هذه الإشكالية لا يمكن أن يتحقق عبر القوة أو الإجراءات الأحادية، بل يحتاج إلى معالجة قانونية وسياسية شاملة. يمكن تلخيص أهم المقترحات بالآتي:
أولًا/ العودة إلى روح الدستور وتشكيل لجنة اتحادية ـ إقليمية محايدة لتفسير المواد (111، 112، 115) بشكل واضح وملزم للطرفين، بعيدًا عن التأويل السياسي. فالدستور هو المرجعية العليا، وتوحيد تفسيره سيضع حدًا لكثير من الالتباسات القانونية.
ثانيًا/ ضرورة الإسراع في تشريع قانون النفط والغاز الاتحادي المؤجل منذ أكثر من عقد ونصف. هذا القانون يجب أن يوازن بين مبدأ اللامركزية الدستورية ومبدأ وحدة الدولة في إدارة الثروات، وأن يضع آلية شفافة لتوزيع الإيرادات تضمن العدالة والاستقرار المالي للإقليم والمحافظات كافة.
ثالثًا/ إنشاء صندوق سيادي وطني للثروات النفطية تودع فيه الإيرادات من كل أنحاء العراق، من زاخو حتى البصرة، ويخضع لإشراف مشترك ورقابة مالية دولية ومحلية. الهدف من الصندوق هو ضمان العدالة في توزيع العائدات وفق معايير التنمية المتوازنة المنصوص عليها في الدستور، وتصحيح الفوارق التنموية التي خلفها النظام السابق.
رابعًا/ في حال تعثر التفاهم الداخلي، يمكن اللجوء إلى التحكيم الدولي عبر مؤسسات محايدة مثل غرفة التجارة الدولية في باريس، لحسم النزاعات المتعلقة بالعقود النفطية والتصدير بما يضمن حقوق الطرفين.
خامسًا/ من الضروري فصل الملف النفطي عن الخلافات السياسية، لأن النفط ليس أداة ضغط، بل ثروة وطنية تخص جميع العراقيين. ربطه بالصراعات الحزبية يضر بالمصلحة العامة ويؤخر التنمية الاقتصادية.
وأخيرًا، لا يمكن تجاوز هذه الأزمة دون إرساء شراكة حقيقية بين بغداد وأربيل، تقوم على الثقة والشفافية وتبادل المصالح. فالمركزية المفرطة والهيمنة على القرار لم تجلب الاستقرار، كما أن الانفراد بالإدارة من قبل الإقليم لا يمكن أن يكون حلًا دائمًا.
الحل المستدام هو التفاهم الدستوري القائم على التعاون لا التنازع، وعلى رؤية وطنية ترى في النفط وسيلة لبناء الدولة لا ميدانًا للصراع السياسي.