ديمقراطية بلا اختيار... حين يتحول التصويت في العراق إلى طقس بلا جدوى

ديمقراطية بلا اختيار... حين يتحول التصويت في العراق إلى طقس بلا جدوى
ديمقراطية بلا اختيار... حين يتحول التصويت في العراق إلى طقس بلا جدوى

بعد أكثر من عشرين عامًا على أول انتخابات تشريعية في العراق، ما زال المشهد الانتخابي يعيد نفسه بمللٍ مؤلم. الشعارات تتبدل، الوجوه تتغير، لكن النتيجة واحدة: نظام محاصصة يُعيد إنتاج ذاته في كل دورةٍ انتخابية، حتى فقدت صناديق الاقتراع معناها، وتحول التصويت من ممارسةٍ ديمقراطية إلى طقسٍ سياسي لا يغيّر في جوهر السلطة شيئًا.

منذ عام 2003، بُنيت العملية الديمقراطية العراقية على وعودٍ ضخمة بتحقيق التغيير والإصلاح، غير أن هذه الوعود تبخرت سريعًا أمام هيمنة الأحزاب على مؤسسات الدولة، وتغلغل الفساد في كل مفاصلها. حتى باتت الانتخابات وسيلة لتوزيع النفوذ لا لتجديد الثقة الشعبية، وأصبح البرلمان انعكاسًا لتوازنات القوى لا لإرادة الناخبين. في هذا السياق، لم يعد السؤال هو من يفوز؟، بل هل يفوز أحد فعلًا؟

الناخب العراقي يقف اليوم أمام خيارٍ صعب: أن يصوّت في انتخاباتٍ لا يثق بنزاهتها، أو أن يقاطعها فيترك الساحة ذاتها لأولئك الذين يُجيدون تدوير السلطة. إنها معضلة الوعي واللاجدوى في آنٍ واحد. فالمشاركة لا تعني بالضرورة التغيير، كما أن المقاطعة ليست بالضرورة موقفًا ثوريًا. ما يحتاجه العراق اليوم ليس زيادة عدد الأصوات في الصناديق، بل استعادة معنى الصوت نفسه، أي تحويله من روتين انتخابي إلى فعلٍ واعٍ ومساءلةٍ حقيقية.

لكي يستعيد التصويت قيمته، يجب أن تُبنى العملية الانتخابية على معايير جديدة: الشفافية، الفصل بين المال والسياسة، محاسبة الفاسدين، وتمكين الأصوات المستقلة من الوصول إلى القرار. فالديمقراطية ليست عدد الناخبين، بل نوعية الخيارات، ولا تُقاس بحرية التصويت فقط، بل بقدرة المواطن على محاسبة من انتخبهم.

لقد فقد العراقيون الثقة ليس في الديمقراطية كمبدأ، بل في ممارستها المشوّهة. فحين تصبح السلطة نتاج تسوياتٍ حزبية لا صناديق اقتراع، وحين يُكافأ الفاسد ويُهمّش الكفوء، تتحول المشاركة السياسية إلى عبءٍ أخلاقي أكثر منها واجبًا وطنيًا.

ما يحتاجه العراق ليس دعواتٍ سطحية للمشاركة، بل ثورة في الوعي السياسي تعيد تعريف المواطنة على أساس الكفاءة والنزاهة والمسؤولية. فالصوت الانتخابي ليس هبةً تُمنح، بل أمانة تُساءَل، ومن يمنحه لمن لا يستحق يشارك في إدامة الدائرة ذاتها من الفشل والفساد.

قد لا تكون الانتخابات القادمة مختلفة جذريًا عن سابقاتها، لكن الفرق الحقيقي يبدأ حين يدرك المواطن أن التصويت ليس نهاية المطاف، بل بدايته. فحين يتحول كل صوتٍ إلى سؤالٍ ومساءلة، يمكن حينها فقط أن نستعيد المعنى المفقود للديمقراطية، وأن نمنحها ما حُرمت منه طيلة عقدين: الاختيار الحقيقي.