العراق الفيدرالي... بين جمهورية الدستور وجمهورية التعطيل

العراق الفيدرالي... بين جمهورية الدستور وجمهورية التعطيل
العراق الفيدرالي... بين جمهورية الدستور وجمهورية التعطيل

منذ إقرار الدستور العراقي عام 2005، رُوِّج له بوصفه العقد الاجتماعي الذي سيبني عراقاً ديمقراطياً فيدرالياً، يقوم على مبدأ العدالة والمواطنة والمساواة في توزيع السلطة والثروة. لكن ما حدث لاحقاً كان عملية تفريغٍ منهجي لبنوده من محتواها، حتى تحوّل إلى وثيقة تُستخدم انتقائياً لتكريس نفوذ المركز وتعميق الانقسام بدل ترسيخ الوحدة الوطنية.

الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003 لم تلتزم بروح الدستور ولا نصّه. عدد من المواد الجوهرية بقي معلّقاً أو جرى تطبيقه جزئياً، ما يعكس غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإرساء نظام اتحادي متوازن. وأبرز مثال على ذلك المادة 140، التي تُعدّ جوهر التسوية الوطنية حول المناطق المتنازع عليها، وفي مقدمتها كركوك. فالمادة وضعت جدولاً زمنياً واضحاً ينتهي عام 2007 لإتمام التطبيع والإحصاء والاستفتاء، لكنّ الحكومات العراقية تجاهلتها عمداً، مكتفية بخطابات ووعود شكلية، ما أبقى ملف كركوك قنبلة سياسية مؤجلة.

أما المادة 65، التي تنص على تشكيل مجلس الاتحاد كغرفة تشريعية ثانية توازن سلطات البرلمان، فقد ظلت حبراً على ورق. المجلس لم يُشكَّل حتى اليوم، ما جعل السلطة التشريعية أحادية البنية، خاضعةً لمزاج الكتل السياسية الكبرى وتوازناتها الحزبية. ومع غياب هذا المجلس تعطلت فكرة التمثيل الحقيقي للأقاليم والمحافظات داخل العملية التشريعية، ففقدت الفيدرالية معناها العملي.

كذلك بقيت المادة 106، التي تدعو إلى إنشاء هيئة عامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية، مجرد نصٍ بلا تطبيق. وهي الأداة التي تضمن العدالة في توزيع الثروة الوطنية. ومع غيابها استمرت الخلافات المالية بين بغداد وأربيل، وازدادت الفجوات الاقتصادية بين المحافظات، ليتحوّل المال العام إلى وسيلة ضغطٍ وابتزازٍ سياسي، بدلاً من كونه حقاً دستورياً مشتركاً. تقرير الأمم المتحدة حول تقييم أداء الدستور العراقي (ConstitutionNet, 2023) أكد أن “غياب التشريعات المكمّلة وتعطيل المؤسسات الرقابية جعل النظام الدستوري في العراق مجرد هيكل بلا مضمون”.

المادتان 115 و121 منحتا الأقاليم صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها الداخلية، لكن التطبيق العملي كشف العكس. بغداد ما زالت تمارس وصاية سياسية واقتصادية على الأقاليم، خصوصاً على إقليم كردستان، عبر التحكم بالموازنة والرواتب والنفط، في خرقٍ واضحٍ لمبدأ الفيدرالية واعتداءٍ على صلاحيات دستورية صريحة. دراسة تحليلية نشرتها مجلة Insight Turkey تحت عنوان The Chaos of the Iraqi Constitutional System وصفت هذه الممارسات بأنها “انتهاك مزمن لمبدأ العدالة الاجتماعية وتقويض لمفهوم الدولة الاتحادية”.

حتى المبادئ العامة التي تُعدّ روح الدستور تعرّضت للتهميش. فالمادة 9، التي تنص على بناء قوات مسلحة مهنية بعيدة عن الانتماءات الطائفية، تحوّلت إلى شعار متكرر، بينما تغلغلت الانقسامات المذهبية في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية. أما المادة 16 التي تضمن تكافؤ الفرص لجميع العراقيين، فبقيت حبراً على ورق في ظل نظام محاصصةٍ يوزع المناصب على أساس الولاءات لا الكفاءة. تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2024 أكّد أن “المؤسسات الحكومية العراقية تفشل بشكل متكرر في تطبيق الضمانات الدستورية الخاصة بالمساواة والعدالة”.

أما المادة 38، التي تكفل حرية التعبير والتظاهر، فقد أصبحت رهينة مزاج السلطة التنفيذية؛ تُفتح عند الحاجة وتُغلق عند الخوف. فكل موجة احتجاجية تقابلها قوانين مقيدة واعتقالات تعسفية، بحجة “حماية الأمن العام”. تقرير مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان (OHCHR) وبعثة يونامي في العراق لعام 2022 أوضح أن “القوانين التي تُقيد التظاهر والاعتقالات العشوائية تُعد انتهاكاً مباشراً للمادة 37 من الدستور المتعلقة بالحرية والكرامة الإنسانية، والمادة 47 الخاصة بالفصل بين السلطات”.

كل هذه الخروقات لم تأتِ صدفة، بل كانت نتيجة حسابات سياسية تعمّدت إبقاء الدستور معطلاً كي لا يهدد مصالح الطبقة الحاكمة. فتنفيذه يعني إعادة توزيع السلطة والثروة، وضبط العلاقة بين المركز والأقاليم، وإنهاء الامتيازات التي راكمتها القوى الحزبية منذ عام 2003. تعطيل الدستور لم يكن سهوًا، بل سياسة مقصودة، واتفاق غير معلن بين المستفيدين من فوضى التطبيق الانتقائي.

التجربة الفيدرالية في العراق لم تفشل من تلقاء نفسها، بل أُفشلت بقرار سياسي. فبدلاً من أن تكون الفيدرالية مدخلاً للوحدة الطوعية والعدالة، تحوّلت إلى عنوانٍ للصراع وذريعةٍ للهيمنة المركزية. طالما ظل الدستور مجرد نصوص بلا تطبيق، سيبقى العراق يعيش "لا مركزية شكلية" تُدار فيها الدولة بذهنيةٍ مركزية قديمة تحت غطاءٍ فيدرالي حديث.

وهنا يبرز السؤال الأهم: هل يمكن للانتخابات البرلمانية القادمة أن تغيّر هذه المعادلة وتعيد الحياة إلى الدستور المعطّل؟

بعد عقدين من التجارب الانتخابية التي لم تُنتج سوى إعادة تدوير ذات الوجوه، تبدو الانتخابات المقبلة فرصة نادرة — وربما الأخيرة — لاختبار صدقية الديمقراطية العراقية. فالعراق اليوم يقف عند مفترق طرق حاسم: إما أن يستعيد الدستور مكانته بوصفه المرجعية العليا للدولة، أو يستمر التآكل الدستوري الذي جعل الفيدرالية مجرد واجهة سياسية خالية من المضمون.

في حال جرت الانتخابات بشفافية حقيقية، ونجح الناخبون في إيصال قوى إصلاحية تمتلك مشروعاً واضحاً لتفعيل الدستور، يمكن للبرلمان الجديد أن يعيد فتح الملفات المعطّلة: المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، والمادة 65 الخاصة بتأسيس مجلس الاتحاد، والمادة 106 الخاصة بالهيئة العامة لتوزيع الواردات. حينها فقط يمكن القول إن الديمقراطية العراقية بدأت مرحلة الفعل لا الشعارات.

أما إذا أعادت الانتخابات إنتاج الطبقة نفسها التي عطّلت الدستور لعقدين، فستكون العملية السياسية مجرد تكرارٍ لدائرة مغلقة: برلمان بلا توازن اتحادي، وحكومة تهيمن على الأقاليم باسم الوحدة، ودستور يُتلى في المناسبات ولا يُطبّق في الواقع.

العراقيون أمام خيار مصيري. إما أن يجعلوا من الانتخابات المقبلة لحظة استعادة للدستور وإحياء لروح العدالة والفيدرالية، أو يتركوها تمر كما مرت سابقاتها، لتبقى مواد الدستور بين دفتي كتابٍ مهمل على رف السياسة. البلد الذي وُلد على أمل المساواة لا يمكن أن يستمر على واقع التهميش والانقسام.

الانتخابات القادمة ليست سباقاً على مقاعد البرلمان، بل امتحانٌ لإرادة العراقيين في استعادة دولتهم الدستورية. فإما أن تكون 2025 بداية “جمهورية الدستور”، أو استمراراً لـ“جمهورية التعطيل”. والفرق بينهما لن تصنعه الأحزاب وحدها، بل وعي الناخب، وقدرته على أن يجعل من صوته بداية نهضةٍ دستورية طال انتظارها.