كلمة الرئيس مسعود بارزاني في مخاض الحكومة العراقية الجديدة

كلمة الرئيس مسعود بارزاني في مخاض الحكومة العراقية الجديدة
كلمة الرئيس مسعود بارزاني في مخاض الحكومة العراقية الجديدة

تشهد الساحة السياسية العراقية مرحلة حرجة في عملية تشكيل الحكومة الجديدة، حيث يبرز دور الكتلة الكوردية، وتحديداً الحزب الديمقراطي الكُردستاني، كعامل محوري في تحديد ملامح المشهد السياسي القادم. وفي ظل التعقيدات التي تميز النظام السياسي العراقي القائم على المحاصصة الطائفية والإثنية، تكتسب الكلمة الفاصلة للرئيس مسعود بارزاني أهمية استثنائية في توجيه مسار هذه العملية.

منذ عام 2003، أصبح الكورد اللاعب الثالث الأساسي في المثلث السياسي العراقي إلى جانب الشيعة والسنة. ويتمتع الحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة الرئيس بارزاني بنفوذ كبير داخل إقليم كوردستان وفي بغداد على حد سواء، مما يجعله شريكاً لا غنى عنه في أي معادلة حكومية. هذا الثقل السياسي ليس وليد اللحظة، بل هو نتاج تراكم تاريخي طويل من النضال والتضحيات، ومن قدرة على بناء شبكات علاقات معقدة مع مختلف القوى المحلية والإقليمية والدولية.

تتعدد السيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، وفي كل منها يظهر الدور الكوردي بوضوح. السيناريو الأول يقوم على إعادة إنتاج التحالف التقليدي بين الكتل الشيعية الكبرى والكتلة الكوردية وجزء من الكتل السنية، وفي هذا الإطار يلعب الحزب الديمقراطي الكُردستاني دور صانع التوازن بين الأطراف الشيعية المتنافسة، حيث يمكن أن يرجح كفة تيار على آخر من خلال دعمه أو امتناعه عن الدعم. أما السيناريو الثاني فيتضمن تشكيل تحالف أوسع يتجاوز الخطوط الطائفية التقليدية، يضم قوى من مختلف المكونات تتفق على برنامج إصلاحي، وهنا يمكن للحزب الديمقراطي الكُردستاني أن يكون نواة لهذا التحالف أو ضامناً لاستقراره، خاصة بالنظر إلى علاقاته المتوازنة نسبياً مع مختلف الأطراف. والسيناريو الثالث يقوم على تشكيل حكومة من تحالف واضح يملك الأغلبية البرلمانية مقابل معارضة واضحة المعالم، وفي هذا السيناريو يصبح موقف الكورد حاسماً في تحديد من يملك تلك الأغلبية، مما يمنحهم قوة تفاوضية هائلة.

في قلب هذه السيناريوهات كافة، يقف الرئيس مسعود بارزاني كشخصية محورية لا يمكن تجاوزها أو تجاهلها. يتمتع بارزاني بمكانة استثنائية في السياسة الكوردية والعراقية. وتنبع قوته من عدة عوامل متشابكة تجعل منه اللاعب الذي لا يمكن الاستغناء عنه في أي معادلة سياسية جادة. يحظى بارزاني بإرث عائلي نضالي، مما يمنحه شرعية تاريخية لا يضاهيها أي زعيم كوردي آخر. هذه الشرعية تترجم إلى قاعدة شعبية صلبة، وتمنحه مكانة رمزية تتجاوز السياسة اليومية لتلامس الوجدان الجماعي للشعب الكوردي.

لكن قوة بارزاني لا تقتصر على الشرعية التاريخية والشعبية، بل تمتد إلى شبكة واسعة من العلاقات الإقليمية والدولية بناها على مدى عقود. هذه العلاقات تمنحه قدرة على التأثير في المعادلات العراقية من خلال قنوات خارجية، وتجعل من رضاه عاملاً مهماً للقوى الدولية المؤثرة في العراق. فالولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ينظرون إلى بارزاني والكورد عموماً كعنصر استقرار في منطقة تعج بالاضطرابات، وهو ما يمنحه وزناً إضافياً في أي مفاوضات ويجعله لاعباً إقليمياً بامتياز، قادراً على التأثير في التوازنات الإقليمية التي تنعكس بدورها على الوضع الداخلي العراقي.

يتميز بارزاني أيضاً بخبرة سياسية طويلة وقدرة على المناورة والوصول إلى تسويات، فنهجه البراغماتي جعله شريكاً موثوقاً لمختلف الأطراف السياسية العراقية، حتى تلك التي تختلف معه أيديولوجياً. هذه البراغماتية لا تعني التخلي عن الثوابت الكوردية، بل القدرة على تحقيق أقصى المكاسب الممكنة في ظل موازين القوى القائمة.

تتنوع آليات التأثير الكوردي في عملية تشكيل الحكومة، وتبدأ بالمساومة على المناصب السيادية، حيث يحصل الكورد تقليدياً على منصب رئاسة الجمهورية وعدد من الوزارات السيادية، ويستخدمون هذه المناصب كورقة تفاوضية للحصول على تنازلات في ملفات أكثر جوهرية. لكن الأهم من ذلك هو ربط الكورد لدعمهم لتشكيلة حكومية معينة بالتزامها بحل الملفات العالقة بين أربيل وبغداد، مثل ميزانية الإقليم وصادرات النفط والمناطق المتنازع عليها وحصة البيشمركة من الميزانية والمادة 140 من الدستور. هذه الملفات ليست مجرد تفاصيل إدارية، بل تمس جوهر العلاقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية، وتحدد مدى الاستقلالية التي يتمتع بها الإقليم في إدارة شؤونه.

بفضل علاقاتهم المتوازنة نسبياً مع مختلف الأطراف، يلعب الكورد أيضاً دور الوسيط والضامن بين الكتل الشيعية المتنافسة أو بين الشيعة والسنة، وهذا الدور يمنحهم تأثيراً يفوق حجمهم العددي. في الحالات القصوى، يمكن للكورد أن يهددوا بسحب دعمهم لحكومة معينة أو بالانسحاب من العملية السياسية، وهو تهديد ذو مصداقية.

لا يخلو المشهد من تحديات تواجه الدور الكوردي، فالانقسام الداخلي، يضعف أحياناً الموقف التفاوضي الكوردي الموحد. كذلك فإن الضغوط الإقليمية المتمثلة في العلاقات المعقدة مع تركيا وإيران يمكن أن تقيد حرية الحركة الكوردية، خاصة في ظل مخاوف هذه الدول من الطموحات الكوردية.

لكن في المقابل، تتوفر فرص كبيرة أمام الدور الكوردي، فالتوازن الطائفي الهش وعدم قدرة أي طرف على الحسم منفرداً يجعل من الكورد شريكاً ضرورياً ومرغوباً. الدعم الدولي المستمر للكورد كعنصر استقرار في العراق يمنحهم وزناً إضافياً، والواقعية السياسية التي يتبناها الرئيس بارزاني تجعل الكورد شركاء مفضلين لمختلف الأطراف. وليس أقل من ذلك أهمية، فإن قوة البيشمركة الكوردية تمثل عاملاً عسكرياً لا يستهان به في معادلات القوى العراقية.

بالنظر إلى المعطيات الحالية، يبدو السيناريو الأرجح هو تشكيل حكومة تحالفية تضم الكتل الشيعية الرئيسية والحزب الديمقراطي الكُردستاني وأطراف سنية معتدلة. في هذا الإطار، من المتوقع أن يلعب الرئيس مسعود بارزاني دور صانع التوازن، مستخدماً نفوذه لضمان عدم هيمنة أي طرف شيعي واحد على الحكومة، مما يحافظ على الحاجة المستمرة للشريك الكوردي. سيقود بارزاني شخصياً المفاوضات حول القضايا الحاسمة، تاركاً التفاصيل لممثلي حزبه في بغداد، وسيستفيد من علاقاته مع تركيا ودول الخليج لتسهيل تفاهمات إقليمية تدعم الاستقرار الحكومي في العراق. الأهم من كل ذلك، سيشترط بارزاني التزامات واضحة من الحكومة الجديدة بشأن الملفات العالقة مع الإقليم، ربما مع آليات ضمان دولية أو إقليمية.

يظل الثقل الكوردي، وبالأخص الحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة الرئيس مسعود بارزاني، عنصراً لا غنى عنه في معادلة تشكيل الحكومة العراقية. الكلمة الفاصلة لبارزاني لا تنبع فقط من الوزن الانتخابي لحزبه، بل من شبكة معقدة من العلاقات والشرعية التاريخية والخبرة السياسية والدعم الإقليمي والدولي. في ظل استمرار الانقسامات بين مختلف المكونات العراقية، يبقى الكورد الطرف الذي يمكنه أن يميل كفة الميزان في أي اتجاه، مما يمنحهم قوة تفاوضية تفوق حجمهم العددي بكثير. نجاح العملية الحكومية في العراق يعتمد بشكل كبير على قدرة القوى السياسية على التوصل إلى تفاهمات ترضي الأطراف الكوردية وتضمن حقوق الإقليم، وهو ما لن يتحقق دون موافقة وبركة الرئيس مسعود بارزاني، صاحب الكلمة الفاصلة في مخاض الحكومة العراقية الجديدة.