الانتخابات العراقية الأخيرة… بين بيع المناطق، ضعف الوعي، المال السياسي، والتجربة الديمقراطية التي لم تنضج بعد

الانتخابات العراقية الأخيرة… بين بيع المناطق، ضعف الوعي، المال السياسي، والتجربة الديمقراطية التي لم تنضج بعد
الانتخابات العراقية الأخيرة… بين بيع المناطق، ضعف الوعي، المال السياسي، والتجربة الديمقراطية التي لم تنضج بعد

منذ أكثر من عشرين عامًا والعراق يعيش تحت سقف تجربة سياسية يسمّونها «الديمقراطية»… عشرون عامًا من صناديق الاقتراع، الوعود، الخيبات، التحالفات، الانقسامات، والآمال المؤجلة. ومع كل دورة انتخابية، يتكرر السؤال المؤلم نفسه: كم سنة لازم تمر حتى الناس تتعلّم؟ كم تجربة يجب أن نخوضها حتى نفهم معنى الصوت ومعنى المرشح ومعنى الدولة؟

كان المفترض أنّ عشرين سنة كافية لصنع وعي سياسي، لكن الواقع يقول إننا ما زلنا ندور في نفس الحلقة: نفس الأخطاء، نفس الأساليب، نفس الصفقات، نفس الإحباط.

لكي نفهم ما يحدث اليوم، علينا أن نضع إطارًا مختصرًا عن شكل الانتخابات العراقية مؤخّرًا:

– تُجرى الانتخابات وفق نظام الدوائر المتعددة، مع تنافس بين قوائم كبيرة، تحالفات، أحزاب، ومستقلين.

– بلغ عدد المرشحين في الدورة الأخيرة حوالي 7743 مرشحًا—رقم ضخم يدل على سعة المشهد لكنه لا يعكس بالضرورة جودة الترشح.

– تمت عملية تصويت مبكر لنحو 1.3 مليون من الأجهزة الأمنية، إضافة إلى آلاف النازحين.

– نسبة المشاركة المُعلنة بلغت نحو 55–56% من المسجّلين، ولكن نسبة المشاركة الحقيقية أقل بكثير إذا احتسبنا جميع المؤهّلين للتصويت، لأن ملايين لم يسجّلوا ولا يحملون بطاقة بيو مترية.

أما في النتائج:

– جاء تحالف رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في المرتبة الأولى لكنه لم يحصل على أغلبية مريحة، ما يعني استمرار التعقيد السياسي.

– ظلت الخارطة الانتخابية محكومة بحد كبير بالمحاور الطائفية والمناطقية، لا بالمشاريع والبرامج.

ثانيًا: التكتلات الكبيرة تخنق الكفاءات

التجربة العراقية تكشف أن الكفاءة ليست جواز عبور للسياسة.

التكتلات الكبيرة تسيطر، وتفرض على المستقلين—حتى الأكفاء منهم—أن يدخلوا من بوابة حزب أو كتلة لا يؤمنون بأفكارها.

مرشح محترم عنده خبرة + شهادات + مشروع… لكنه لا يملك «تأسيسة سياسية»

 يُجبر على الانضمام إلى جهة سياسية فقط كي يُسمح له بالمنافسة.

كأن الدخول إلى الانتخابات أصبح إذن عبور حزبي إجباري، لا خيارًا فكريًا.

ورغم وجود مرشحين ووجوه محترمة فعلًا—أكاديميين، عشائريين محترمين، شخصيات سياسية لها خبرة ومشروع—إلا أنّ في المقابل تظهر فئة من المرشحين لا علم… لا فهم… لا منطق… ولا أي نوع من العطاء الذي يمكن أن يستفيد منه العراق. مجرد «وجاهة اجتماعية» يشتريها البعض كما يشتري أحدهم بدلةً جميلةً ينقصها ربطة العنق ، أو كما تقول فتاة: «علشان يكتمل لوكي لازم أحط شوية أحمر شفاه». أصبح المقعد النيابي عند البعض إكسسوارًا اجتماعيًا أكثر مما هو مسؤولية وطنية.

المحاصصة… من اخترعها؟

لا أحد يعرف من زرع هذه الفكرة أصلًا…

لكنها بالتأكيد ليست مبنية على:

– الكفاءة،

– النزاهة،

– الوطنية،

– أو مصلحة العراق.

المحاصصة مبنية على:

ابن الطائفة – ابن المنطقة – ابن المذهب .

فكرة بشعة تُقسّم الوطن إلى حصص جسد مذبوح.

بينما المفروض أن يكون السؤال الوحيد:

مَن يخدم العراق؟

مرشح لا يملك منطقة، لا يملك عشيرة، لا يملك قاعدة، لا يملك امتدادًا اجتماعيًا، وربما حتى غير مرغوب فيه بين أهله… يذهب بكل بساطة ويشتري منطقة جاهزة. يشترونها منه: وجهاء، رؤساء عشائر، نواب سابقون، شبكات نفوذ محلية. يبيعونها كأنهم يبيعون عقارًا، ويفرضون على الناس مرشحًا لا يعرف شوارع المنطقة ولا أهلها ولا مشاكلها، لكنه أصبح «النائب» لأنه دفع.

هذا المشهد يقتل جوهر المنافسة الحقيقية. كيف يتنافس مرشح محترم وكفوء وصاحب مشروع، مع شخص اشترى منطقة بأموال؟

الصورة تصبح تمامًا كما قلتُها:

مثل شخص داخل مسابقة ملكات جمال وكل المتسابقات—استغفر الله—ليسن من حسنات المنظر، فيفوز تلقائيًا لا لأنه الأفضل بل لأنه الوحيد المقبول.

ومثل مرشح لجائزة أفضل كتاب، وكل الذين معه أميّون لا يعرفون القراءة أصلًا.

(ومثل شخص يدخل رالي سيارات، وكل المتسابقين… عميان، وهو الوحيد الذي يرى. طبيعي يفوز)

رابعًا: بيع الأصوات… ثم بيع المقاعد… واليوم بيع مناطق كاملة

هذه الظاهرة هي جوهر الأزمة.

بيع الأصوات قديم.

بيع مقعد نائب لنائب آخر كذلك قديم.

لكن الجديد والصادم هو بيع منطقة انتخابية بأصواتها ووجهائها ونفوذها.

كيف يحدث ذلك؟

مرشح:

– لا يملك منطقة،

– لا يملك عشيرة،

– لا يملك قاعدة،

– لا يملك محبين،

– أو غير مرغوب فيه أصلًا،

فيذهب ويشتري منطقة جاهزة بكل تفاصيلها.

يشتريها مثل واحد لابس بدلة ناقصها “الجرافة”، فيستكملها.

أو مثل بنت تقول: “علشان يكتمل ال لوك لازم أحط أحمر شفاه.”

هكذا أصبح المقعد النيابي…

إكسسوار اجتماعي.

يشتريها من:

– وجهاء،

– نواب سابقين،

– شخصيات نافذة،

– متنفذين محليين.

والمصيبة:

الناس تصوّت لشخص لا يمت بصلة للمنطقة، لا يعرف شوارعها ولا ناسها ولا مشاكلها. ربما لا يعرف شيء عن اي شيء في الدنيا ليس فقط المنطقة.

مرشح لا يملك منطقة، لا يملك عشيرة، لا يملك قاعدة، لا يملك امتدادًا اجتماعيًا، وربما حتى غير مرغوب فيه بين أهله… يذهب بكل بساطة ويشتري منطقة جاهزة. يشترونها منه: وجهاء، رؤساء عشائر، نواب سابقون، شبكات نفوذ محلية. يبيعونها كأنهم يبيعون عقارًا، ويفرضون على الناس مرشحًا لا يعرف شيء، لكنه أصبح «النائب» لأنه دفع.

والأمر من ذلك فإنهم لا يدركون ان هذا إهانة لأهل المنطقة و كأن البائع الذي باعهم يقول لهم ليس بكم من يسد مكان المشتري

…كيف يتنافس مرشح محترم لديه إخلاص وكفاءة مع شخص اشترى منطقة بأموال؟

– مثل واحد داخل مسابقة ملكات جمال، وكل اللي معه «مش حسنات منظر» فيفوز تلقائيًا!

– أو واحد مرشح لجائزة أفضل كتاب، وكل اللي معه أميين لا يقرأون أصلًا!

– أو واحد داخل سباق رالي سيارات، وكل المتسابقين… عميان، وهو الوحيد الذي يرى، فطبيعي يفوز.

هذه ليست انتخابات…

هذه مهزلة سياسية.

التنمر… بدل النقاش السياسي

بدل التركيز على برنامج المرشح، أخلاقه، مشروعه، تاريخه المهني…

صار الناس تركز على:

– شكله،

– ملابسه،

– زواجه، أخته، لون كحل عيونه

– قصصه الشخصية،

– صوره،

– أمور لا علاقة لها بدور نائب في البرلمان.

وكأن النائب ذاهب ليخطب عروس!

وليس ليخدم الشعب.

النائب لا يخطب فتاة…

بل يخطب ثقة العراق كله.

الناس أيضًا ضحايا… ولهم ظروف قاسية

لا يجوز أن نقعد على كرسي مخملي ونجلد الناس.

الناخب الذي ننتقده ربما:

– عاش حروبًا،

– عاش فقرًا،

– عاش تهجيرًا،

– عاش تعبًا نفسيًا،

– فقد الثقة بكل شيء.

وهناك نقطة مهمة جدًا: النقد الذي يمارس ضد المرشحين وصل أحيانًا إلى مستويات تخدش الحياء، فيها تجريح وإهانات وتهكّم بعيد عن الأخلاق العامة. وهذا شيء لا نراه في الدول التي تحترم نفسها. حتى حين يختلف الناس سياسيًا في الخارج، يظل هناك حد أدنى من الاحترام. عندهم التنمّر له حدود، له قواعد، له خطوط حمراء. أما عندنا، فقد تحول إلى حالة من الانهيار الأخلاقي في بعض الأحيان. لو رأى شخص من الخارج ما يُقال عن بعض المرشحين سيقول فورًا: عيب… هذا ليس نقدًا سياسيًا، هذا تدهور في الأخلاق العامة..

بيع الأصوات:-

احيانا حين يبيع صوته صحيح هو فاسدو جاهل…

ولكن أحيانًا يعني أنه يائس.

لكن ورغم ذلك، لا يجوز أن نظلم الناس. كثير من الناخبين مرّوا بظروف قاسية: فقر، حروب، تهجير، فقدان أمان، ضغوط نفسية، وإحباط مستمر. فحين يبيع البعض صوته أو يتعامل مع الانتخابات بيأس 

ولهذا يقولون:

“ولا حد رح يعمل شي ولن يتغير الحال… خليني أكسب قرشين.”

المال السياسي وتدخلات الخارج

هناك مرشحون لا يستطيعون بناء قاعدة شعبية داخل بلدهم…

فيذهبون للخارج:

– دعم أمريكي،

– دعم إسرائيلي،

– دعم أجنبي،

– دعم مالي وسياسي.

وهكذا تُخلق قاعدة شعبية وهمية قائمة على المال السياسي، لا على قناعة الناس.

المرشح الذي لا يستطيع تكوين قاعدة شعبية، فيذهب يبحث عن دعم خارجي: دعم أمريكي، دعم إسرائيلي، تمويل سياسي، نفوذ من الخارج. وهذه التدخلات ليست حبًا بالعراق وإنما مصالح، وتخلق قواعد انتخابية وهمية مبنية على المال السياسي لا على قناعة الناس

الكفوء يخجل… والفارغ يتقدم

بعض أبناء العائلات المحترمة يرفضون الترشّح خوفًا من التنمّر، من المقارنات، أو من وضع اسمهم بجانب أشخاص «لا يُنزل الله بهم سلطانًا». يشعر بأن سنوات عمره التي قضاها بالدراسة والقراءة والعمل والإنجازات والخبرة ستحقد عليه إذا ترشح ضمن باقة ممن لا يجيدون الكلام ولا التفكير عديمي الخبرة والتجربة والفهم

النتيجة؟

– الكفوء ينسحب،

– الفارغ يتقدم،

– والعراق يخسر الأفضل.

الناس لا تعرف أصلًا ما هو دور النائب

وهذه نقطة قلتِها كثيراً أيضًا:

الكثير من الناس لا يعرفون أصلاً ما هو دور النائب، ماذا يفعل، ما هي صلاحياته، وما هو دوره الحقيقي في التشريع.

ونائب لا يعرف دوره + ناخب لا يعرف دور النائب = كارثة سياسية مستمرة.

النقد للحالة… وليس للأشخاص

أنا لا أشخصن، ولا أنتقد شخصًا، ولا أذكر أسماء.

أنا أنتقد ظاهرة، لا أفراد.

انتقاد الأشخاص هو مشكلة شخصية…

أما انتقاد الظاهرة فهو واجب وطني.

ووسط كل هذا، كثير من أصحاب الكفاءة يخجلون من الترشح. يخشون المقارنة مع أشخاص لا علاقة لهم بالكفاءة، ويخشون التنمر الذي لا يرحم، ويخجلون أن تُوضع صورهم إلى جانب أسماء لا تحمل أي وزن علمي أو أخلاقي. وهكذا ينسحب الكفو، ويتقدم الفارغ، ويخسر العراق

النقد للأوضاع وتشخيصها مثل علاج المرض

لا يمكن علاج مرض دون معرفة الفيروس.

ولا يمكن إصلاح مجتمع دون فهم جذور المشكلة.

لا نريد تنظيرًا سطحيًا.

نريد تحليل جذري للسلوك السياسي والاجتماعي.

من اليوم… وليس قبل الانتخابات بشهرين

إذا أردنا انتخابات حقيقية بعد أربع سنوات:

– يجب أن نبدأ من الآن،

– لا قبلها بشهر أو شهرين.

نحتاج إلى:

l       رفع الوعي،

l       محاربة المال السياسي،

l       وقف بيع المناطق،

l       تشجيع الكفاءات،

l       إعادة الثقة إلى الصوت الانتخابي،

l       منع تدخلات الخارج،

l       توعية الناس بدور النائب الحقيقي.

إن لم نفعل ذلك…

سنعود للدائرة نفسها، بوجوه جديدة، وأخطاء قديمة، ووجاهات تُشترى مثل ربطات العنق.

واخيراً 

العراق يستحق تجربة سياسية أنظف، ووعيًا انتخابيًا أعمق، ووجوهًا تخدم الوطن لا تتزيّن بالمناصب.

الديمقراطية ليست ورقة توضع في صندوق، وليست مقعدًا يُشترى، وليست منطقة تُباع.

الديمقراطية ثقافة… وأمانة… ومسؤولية.

وإذا لم نبدأ اليوم، سنظل في نفس الحلقة مهما تغيّرت الوجوه.

وان جئتكم للحق أنا قد كتبت من مدة طويلة عن الديمقراطية وأثارها و نتائجها وكيف أننا لسنا مؤهلين لذلك و التأهيل الوحيد الذي اعنيه هو الوعي و الثقافة و العلم حيث ان رأي الاغلبية بالنسب لي ليس هام أبدا بل رأي النخب التي تتمتع بالأخلاق والضمير يصاحبهم العلم والفهم والحكمة

وبالنهاية مبروك لمن له كفاءة وتاريخ من النواب وحظا أوفر لمن لم يفز و لعل بعض المرشحين اعتبروا ان خسارتهم صك تبرئة لهم من استخدام الأموال او الدعم الخارجي و طبعا أنا لا أتكلم عن الرجال الذين لهم باع وخبرة في السياسة وخدمة الوطن ،انما الطارئين المستطرقين..