د. ضياء عبد الخالق المندلاوي
كاتب عراقي
بعد التهم والشائعات… حيدر أبو تارة ينتصر من جديد
في مشهد سياسي اتّسم بالجدل والتجاذبات، سجّل المرشح حيدر علي أبو تارة فوزاً لافتاً بمقعد الكُورد الفيليين في محافظة واسط، ليضع حداً لمرحلة طويلة ظلّ فيها هذا المقعد بعيداً عن أصحابه الطبيعيين، وخاضعاً لترتيبات حزبية أفرغته من مضمونه القومي.
ولعل من أبرز ما منح هذا الفوز شرعية سياسية أعمق هو الدعم الواضح للحزب الديمقراطي الكوردستاني، الذي دعم المرشح منذ بداية السباق الانتخابي، إدراكاً منه لأهمية إعادة المقعد إلى أصحابه الحقيقيين، وقد انسجم ذلك الدعم مع الرؤية التاريخية للحزب في حماية المكوّنات الكوردية كافة، ومن ضمنها الكُورد الفيليون. وتجلّى هذا الموقف بشكل رمزي كبير من خلال تصويت الرئيس مسعود البارزاني نفسه لصالح المرشح حيدر أبو تارة، في رسالة سياسية واضحة تؤكد مكانة الكُورد الفيليين بوصفهم جزءاً أصيلاً من الأمة الكوردية، وأن تمثيلهم في مؤسسات الدولة جزء من هوية الشعب الكوردي، وليس امتيازاً سياسياً يمكن التفريط به.
ومنذ إعلان النتائج، برزت محاولات تضليل إعلامي تهدف إلى التشكيك بالفوز، فقد روّج البعض لمعلومات مضللة مفادها أن المرشح حصل على 16 ألف صوت من قوات البيشمركة في التصويت الخاص، إلا أن الوقائع أثبتت العكس؛ إذ لم يحصل أبو تارة من التصويت الخاص إلا على 2448 صوتاً، بينما نال بقية الأصوات من التصويت العام، ليصل مجموع أصواته إلى 17,188 صوتاً من جميع المحافظات العراقية ومن إقليم كوردستان. علماً ان الكوتا تصويتٌ وطني، يحق لكل ناخب في العراق الإدلاء بصوته لها، دون أي تمييز بين التصويت الخاص والعام، فالمعيار هو مجموع الأصوات، لا مصدرها.
وبينما كانت الحقائق واضحة، ارتفعت وتيرة حملات التشهير التي ظلت كامنة لسنوات، فقد وجدت بعض الأطراف التي اعتادت التحكم بالمقعد عبر شخصيات لا تمتّ للهوية الكُوردية الفيلية بصلة، أن المقعد عاد إلى أصحابه الشرعيين، فبدأت عاصفة الشائعات ومحاولات التضليل. ولم تكن الحملة موجّهة ضد شخص المرشح بقدر ما كانت موجّهة إلى أصالة الكُورد الفيليين وحقهم في التمثيل، فالتصويت الذي ناله أبو تارة لم يكن مجرد عملية انتخابية، بل كان إعلاناً واضحاً بأن الفيليين مكوّن كوردي أصيل، وأن إرادتهم السياسية لا يمكن تجاوزها أو مصادرتها بعد اليوم.
بدأت الحملة باتهام سريع الإعداد يتعلق بـ“تزوير اسم الأم”، في محاولة لإضفاء طابع جنائي على مسألة إجرائية تخضع أصلاً للقنوات القانونية الرسمية، لكن البطاقة الوطنية الموحدة، وصحة الصدور، وسجلات الأحوال المدنية، أكدت جميعها سلامة البيانات للفائز، مما حوّل الاتهام إلى مجرد ضوضاء إعلامية بلا أي أساس قانوني.
ثم جاءت التهمة الأكثر استخداماً في كل حملات التسقيط السياسي في العراق، اتهامه بالانتماء إلى حزب البعث المنحل، إلا أن وثيقة هيئة المساءلة والعدالة وهي المرجعية القانونية الأعلى في هذا الملف، وأثبتت أن المرشح لا يحمل شيئاً من ذلك، ولم يُسجَّل له أي نشاط حزبي في النظام السابق، بل إن عائلته كانت مطاردة ضمن قوائم التهجير، وهو ما يحوّل الاتهام إلى مفارقة ساخرة؛ إذ كيف يكون بعثياً من طارده البعث نفسه؟!
بل أكثر من ذلك، فقد عُيّن أبو تارة كمفصول سياسي عام 2015 بقرار رسمي، ثم أضيفت له الخدمة السياسية قبل عام 2003 وفق القوانين النافذة، وهي حقوق مكتسبة لكل من تضرر من سياسات النظام السابق، فكيف يُتّهم بالبعث من تثبت سجلات الدولة أنه ضحية مباشرة لهذا النظام؟ إنها مفارقة تكشف حجم الانهيار الأخلاقي في خطاب خصومه.
وعندما عجزت الحملات عن زعزعة الحقائق القانونية، هبط مستوى الخطاب إلى التشكيك في الهوية القومية للمرشح، في محاولة تكشف هشاشة الحجة لا أكثر، فالمستمسكات الرسمية، والسجلات التاريخية، ووثائق التهجير والملاحقة، كلها تشير بوضوح إلى انتمائه للكُورد الفيليين. لكن من يفقد امتيازاً سياسياً بعد تسعة عشر عاماً لن يتورع عن نفي حتى المسلّمات، فقط لأن النتيجة لم تأتِ على مقاسه.
الحقيقة التي حاول البعض طمسها بسيطة ومباشرة، الرجل كوردي فيليّ، ومعه وثائقه، ومعه تاريخه، ومعه سجلات رسمية لا يمكن التلاعب بها.
أما خصومه، فلا يملكون سوى خطاب متوتر يتناقض من جملة إلى أخرى، وكم هو لافت أن هذه الاتهامات لم تظهر قبل الانتخابات، ولا عند تسجيل الترشيح، ولا عند تدقيق الأسماء، ولا أثناء مرحلة الطعون القانونية، بل ظهرت فقط بعد أن فاز المرشح بالمقعد! وهذا وحده كافٍ لفهم طبيعة الحملة وغايتها.
فالمنطق السياسي يقول إن من يملك وثيقةً رسميةً أقوى لن يلجأ إلى الإعلام، بل إلى القضاء، أمّا من يخشى المواجهة القانونية، فيذهب إلى الضوضاء؛ لأنّ الضوضاء لا تحتاج إلى دليل، بل إلى جمهورٍ حزبيٍّ مؤدلجٍ وسرديّةٍ جاهزة. ومع ذلك، اصطدم كلُّ هذا الضجيج بجدارٍ واحد، وهو الوثائقُ الحكومية التي لا يمكن ليُّها أو نفيُه.
وحين تهاوت الاتهامات القانونية، انتقل الخطاب إلى مستوى أكثر انحداراً، تمثّل بالطعن في الهوية القومية للمرشح. لكن القيود المدنية، ووثائق النظام السابق، وسجلات التهجير، أثبتت جميعها انتماءه الواضح للكُورد الفيليين.
ولم تتوقف محاولات عرقلة فوزه عند هذا الحد؛ إذ تقدّم المرشح الخاسر بشكوى للطعن بالنتائج، إلا أن مجلس المفوضين أصدر قراره المرقم (4) في محضر جلسته الاعتيادية رقم (47) بتاريخ 1/12/2025، وقضى برد الشكوى بصورة نهائية لعدم ثبوت أي خرق أو تزوير أو مخالفة قانونية، مُكرّساً شرعية الفوز من جديد على المستوى القانوني، ومُفشلاً آخر أوراق الاعتراض.
إن فوز حيدر علي أبو تارة ليس انتصار شخص، بل استعادة حق لمكوّن استُبعد طويلاً عن تمثيله الطبيعي، وهو إعلان بأن المقعد الكورد الفيلين عاد إلى أصحابه الشرعيين، وأن زمن احتكاره من خارج المكوّن قد انتهى، لقد واجه الرجل حملة مركّبة من الأكاذيب والطعن بالهوية والتاريخ، لكنه ثبت وحقق نصراً قانونياً وأخلاقياً على الضجيج الإعلامي.
وفي المحصلة، فإن حجم الهجمة يعكس حجم الانزعاج من هذا التحوّل في التمثيل، وقد أثبت أبو تارة، عبر التزامه بالمسار القانوني وثباته أمام محاولات التشويه، أن الحقيقة لا تُهزم بالصخب، وأن الشرعية لا تُنتزع بالشائعات، وأن إرادة المكوّن قادرة على إنهاء أي احتكار مهما طال الزمن.
إن هذا الفوز لا يمثّل خاتمة مسار، بل بداية مرحلة جديدة، عنوانها، تمثيل أصيل… وحق مُستعاد… ومقعد عاد إلى أصحابه بعد طول غياب.