إشاعة نقل العاصمة: قصة الدخان الذي ملأ العراق بلا نار

إشاعة نقل العاصمة: قصة الدخان الذي ملأ العراق بلا نار
إشاعة نقل العاصمة: قصة الدخان الذي ملأ العراق بلا نار

في الآونة الأخيرة، تصدّرت مواقع التواصل الاجتماعي موجة واسعة من الحديث عن "نقل العاصمة من بغداد إلى أربيل"، رغم عدم وجود أي وثيقة رسمية أو تصريح حكومي يدعم ذلك. غير أنّ الإشاعة لم تظهر من العدم، فهي نتاج بيئة سياسية مضطربة، وخطاب إعلامي متداخل، وصورة عامة مهيّأة لتصديق أي رواية تتعلق بضعف المركز وصعود الإقليم. فالدخان كان حاضرًا… أمّا النار فكانت غائبة.

من جهة أولى، كانت الساحة العراقية تعيش سلسلة من التصادمات السياسية التي أظهرت هشاشة بنية الحكم في بغداد، في مقابل هدوء ملحوظ في إدارة إقليم كوردستان لأزماته عبر خطاب دبلوماسي رصين وأداء مؤسساتي أكثر استقرارًا. وقد برهنت الكابينة التاسعة على قدرة لافتة في إدارة التحديات المعقّدة دون أن تفقد توازنها، مقدّمةً نموذجًا لحكومة تعرف كيف تحافظ على الاستقرار بينما ينزلق الآخرون نحو الفوضى.
هذا التباين ولّد شعورًا عامًا بأن الإقليم يتحرك بمنطق الدولة، بينما المركز يزداد انقسامًا واضطرابًا، ما جعل المقارنة بين الطرفين حاضرة في وعي الجمهور.

ثم جاء الحدث الذي ضاعف هذه الانطباعات: افتتاح أكبر قنصلية أميركية في العالم في أربيل. ففي كلمته خلال الافتتاح، وصف نائب وزير الخارجية الأميركي "مايكل ريغاس"  إقليم كوردستان بأنه "الشريك الأمني والعمود الفقري للعلاقات الأميركية–العراقية"، مؤكدًا أن هذا المشروع أُقيم في " مدينة مستقرة وآمنة "، وأنه يعكس التزامًا أميركيًا طويل الأمد في الإقليم والعراق. أما في الجانب الكوردي، فقد اعتُبرت الخطوة "رسالة سياسية واضحة" تؤكد ثقة واشنطن بالإقليم ودوره في استقرار المنطقة.
ورغم أن هذا الحدث لا يمتّ بصلة إلى نقل العاصمة، إلا أنّ رمزيته الدولية صنعت أرضية خصبة لتداول أي رواية تربط بين النفوذ الأميركي والاستقرار السياسي في أربيل.

وزاد من اتساع رقعة الإشاعة أن المشهد الإعلامي العراقي قدّم  في السنوات الأخيرة  صورة متكررة عن هشاشة الوضع الأمني في بغداد. فقد حذّر الخبير الأمني "أحمد الشريفي"، في تصريح لشبكة رووداو بتاريخ 18 آذار 2019، من أنّ " انتشار المواجهات العشائرية المسلحة يعطي انطباعًا بأن بغداد لم تعد آمنة”. كما نقلت عدة وسائل إعلام ، من بينها السومرية نيوز والقدس العربي وروسيا اليوم والسياسة الكويتية ، عن " مسؤول عراقي"  بتاريخ 1 كانون الثاني 2020 قوله إن " بعض السفارات تفكر في نقل جزء من أنشطتها إلى أربيل، لأن المنطقة الخضراء لم تعد آمنة ويمكن اقتحامها في أي وقت".
ومع تكرار هذه الرسائل عبر الإعلام والمنصات الرقمية، تتكوّن في ذهن المواطن حالة تُعرف في علم النفس السياسي بـ"التطبيع الإدراكي" (Cognitive Normalization)، حيث يبدأ الوعي الجماعي بتقبّل فكرة غير رسمية وكأنها احتمال واقعي، حتى لو لم تصدر من الجهات الرسمية. وهذا ما جعل الإشاعة تبدو " معقولة " لدى البعض رغم غياب أي أساس قانوني لها.

وفي السياق السياسي، ظهرت أصوات مثل النائب السابق مثال "الآلوسي" ، الذي صرّح لقناة كوردستان24 في تشرين الثاني 2025 بأن إقليم كوردستان " نموذج ناجح في المنطقة"، منتقدًا أداء النظام الاتحادي بوصفه " منهارًا من الداخلط. مثل هذه الخطابات  وإن لم تتطرق صراحة إلى موضوع العاصمة ،  أسهمت في تعزيز صورة الإقليم كبديل للاستقرار، وترسيخ الانطباع بأن ثقة الداخل والخارج تميل تدريجيًا نحو أربيل.

ولم يمضِ وقت طويل حتى تحوّل افتتاح القنصلية الأميركية إلى نقطة التقاء رمزية جمعت بين ثقة الخارج وتماسك الداخل، إذ ساهمت هذه الخطوة في توحيد الشارع الكوردي وتعزيز ثقته بنهج الإقليم السياسي، بعيدًا عن محاولات المعارضة زعزعة المشهد أو إسقاط الحكومة. فالاستقرار يجلب الدعم، والدعم يعيد إنتاج صورة الدولة، وهذه الصورة وحدها كافية لخلق تأثيرات تتجاوز الواقع المؤسسي.

وهكذا، تبدو إشاعة نقل العاصمة انعكاسًا لمشهد سياسي وإعلامي صنعه الخطاب قبل الوقائع. فالعاصمة لم تتغيّر، لكن الخرائط الذهنية تغيّرت، والنار لم تشتعل، لكن الدخان الذي ملأ العراق كان نتيجة كلمات وتصريحات وإيحاءات صنعت بيئة كاملة سمحت للإشاعة بأن تكبر وتتقدّم. وفي النهاية، فإن السياسة ليست فقط إدارة للواقع، بل أيضًا فنّ صناعة الانطباع… والانطباع وحده كان كافيًا ليحوّل الدخان إلى قصة صدّقها الكثيرون رغم غياب النار.