فاطمة ناعوت
كاتبة صحفية
زيارة كوردية لمصر لاتقرأ بالسياسة ولكن بالذاكرة
تربطني بالكورد علاقات صداقة جميلة كونتها خلال زياراتي العديدة لأقلم كوردستان العراق في عدة فعاليات ثقافية وأدبية. شعب راق متحضر مثقف تمسّك بهويته وأرضه رغم الأثمان الباهظة التي دفعها من أرواح أبنائه.
لهذا أبهجتني زيارة السيد مسرور بارزاني، رئيس حكومة إقليم كوردستان العراق، لمصر. تلك الزيارة التي لا تُقرأ بالعين السياسية وحدها، بل تُقرأ بالذاكرة. فمصر لا تستقبل الكورد بوصفهم “آخرين”، ولا الكورد يدخلون مصر كضيوفٍ عابرين. فبين الشعبين تاريخٌ طويل وثري لا يحتاج إلى جواز سفر؛ تاريخٌ تشكّل حين كانت الهوية أوسع من الدولة، وحين كان الشرق يعرِّف نفسَه بالثقافة والحضارات لا بالأسلاك الشائكة والحدود.
العلاقة الكوردية–المصرية ليست علاقات مصالح، بل علاقة وعي وإرث حضاري. وكذلك وعيٌ بأن الاستقرار لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى بالاعتراف المتبادل بين الشعوب النبيلة والقيادات المثقفة، إنطلاقا من الإيمان بان التنوع ليس تهديدًا للوحدة، بل هو شرطها العاقل.
من هنا تأتي أهمية الزيارة: ليست إعلان تحالف، ولا اصطفافًا في معسكر، بل تأكيد على أن العقل السياسي ما زال قادرًا على الإصغاء، لا الاكتفاء بالضجيج. وقد أعلن الرئيس السيسي أكثر من مرة عن مدى تقديره للنضال الكوردي من أجل الحفاظ على الهوية والأرض.
هذه الزيارة الطيبة ليست لإعلان النوايا، بل هي تذكير هادئ بأن الشرق لا يحتاج إلى مزيد من الصخب، بل إلى قليل من العقل، وكثير من الجسارة الفكرية لندعم بعضنا البعض. فالسياسة الواعية المثقفة في أي مجتمع بوسعها أن تُنقذ ما أفسده الطغيان.
فكم كنت شغوفة من قبل بأن تحط قدماي أرض كوردستان ،حتى زرتها وساعتها عشت مع القلم لأكتب عنها لأول مرة عن أرض الأحلام.. أرض دُفع فيها دمٌ وروحٌ ووجع. هنا شعبٌ حَلُمَ حلمًا هائلاً، على بساطته ومشروعيته. حق الحياة. لكن بشروط. شرط التمسّك بهُويةٍ تركها لهم الأجدادُ وسَرَت في عروقهم،.
كتبت "هنا كوردستان. وشعبٌ من أرقى شعوب الأرض. رجالٌ يحترمون النساء، ونساءٌ يدركن أنهن كنزُ الأرض وهدية السماء لبني الإنسان. هنا كوردستان حيث شجرُ اللوز، وزهرُ النرجس الذي شكّلوا علَم إقليمهم من قلبه الأصفر كقرص الشمس، على خلفية بيضاء كاكتمال الإشراق، وشريط أخضر مثل النُّسْغ يسري في ساق الزهرة، وشريط أحمر بلون الدماء التي أُريقت حتى استقلوا وتحرَّروا واقتنصوا الحكمَ الذاتي عام 1991 من أنياب الديكتاتور العراقيّ. مئاتُ الآلاف من الكورد السوريين ينتظرهم الآن مصيرٌ غامض يحلمون بوطن حرّ مثل ذاك الذي صنعه أقرانهم بكوردستان العراق. صديقتي الشاعرة الكوردية السورية "أخين ولات" قالت لي بالأمس ونحن على مائدة الشِّعر: "فقط نحلم أن نعيش دون أن تُسحق هويتنا". في سورية لا يحصل الكورديُّ على أي حق مواطنة ويُدعى: "مكتوم". إن هو وُلِدَ، لا تُسجّل له شهادةُ ميلاد، وإن مات، لا يشعر به أحد، لأنه غير موجود في سجلات الدولة.
ومن السليمانية عشت أجمل اللحظات المعبرة فاتذكر الكلمات لا زالت تقفز على ذاكرتي عن السيمانية مدينة "السليمانية" فهي محطُّ الشعراء والعلماء والفنانين والمؤرخين. ولا عجبَ وقد جمعت موهبة كوردستان وعراقة العراق.
ولهذا فعشقي للكورد ليس وحسب لأصالتهم، بل كذلك لكفاحهم ضد الاندثار والذوبان ودفعهم من دماء شهدائه لاسترداد الهوية وإقرار حق الوجود، مع حفاظهم على طاقة المحبة والسلام. وتلك معادلةٌ صعبة. وليس هذا وجه الشبه الوحيد الذي يربط بين المصريين والكورد، بل ثمة روابطُ تاريخيةٌ أخرى. فيخبرنا التاريخُ أن "نفرتيتي" من أصول كوردية، وكذلك عائلات "خان" و"التيمورية"، وأيضًا أمير الشعراء "أحمد شوقي"، و"العقاد" كانا من أصول كوردية. وهو ما سجلته في قصيدتي: "عصفورٌ فوق نهر سيروان" التي اقول فيها :
“كلَّ نهارٍ/ أخرجُ من خَبيئتي في قُدسِ أقداسِ الهرم/ آخذُ من "نفرتيتي" تميمةً/ أدسُّها في سَلّتي التي أُخبِّئُ فيها قرابينَ أجدادي من شموسٍ وأمطار/ وتعاويذَ مقدسة من أرضِ سَيناء/ ثم أُعرِّج فوقَ نهر النيلْ/ أرتِشِفُ من صفحتِه رشفةً/ تؤمِّنُ رحلتي الطويلةَ نحو الشرقْ/ أفرِدُ جَناحيَّ/ أقطعُ المحيطاتِ والوديانَ والصحاريَ/ وعند الغروبْ/ أكونُ قد وصلتُ إلى مَكمَني الشرقيّ/ أحُطُّ فوق جبل "أزمر"/ ألتقطُ أنفاسي/ أتحمَّمُ في بحيرة "دوكان"/ ومن نهر "سيروان"/ أروي ظمأي/ أستمعُ إلى ما تيسَّرَ من سورة "غافر" تأتيني من المسجد الكبير/ ثم أهبِطُ على قلعة "شيروانة"/ أدخلُ صومعةَ الشِّعر لأقضيَ ليلتي/ مُنصِتةً إلى مُعارضاتِ/ “نالي الشَّهرزوري" مع "أحمد شوقي"/ أنا عصفورةُ القلوبِ الكسيرة/ أرفعُ الغيماتِ فوق رؤوسِ المُتْعبين/ وتحتَ أقدامِ القُسَاة/ أنثرُ الموسيقى والحِنّاءَ لعلَّ نبتةً خضراءَ تورقُ في القلوبِ الجامدة./ عند الفجر/ أُحلِّقُ فوق "باركي دايك"/ أُنصِتُ إلى تغريد العصافير/ وهي تحوِّم حول الأمِّ وطفلِها/ أضعُ رأسي على صدرِها الطيب/ فتُربِّتُ على رأسي حتى أغفو برهةً/ أناجي فيها أطفالي في أرضَ طِيبةَ/ ثم أصحو/ أقطفُ زهرتين/ واحدةٌ: سوف يشبُكَها شاعرٌ في جديلةِ حبيبتِه/ والأخرى/ أخبِّئُها في سلتي وأطير/ فإن مرَّ بي قبرٌ/ ألقيتُ عليه زهرةً لتَدُّلَّ امرأةً حزينةً/ على ضريحِ حبيبِها./ أنا عصفورةُ الحبِّ والسلام/ أدُقُّ أوتادي/ حيث يلتقي العشّاقُ والطيبون/ لكنني لا أسكنُ خَيمتي/ بَلْ أتخفّىَ بين أوراقِ الشجرْ/ لأتنصَّتَ على الأحِبَّة/ عسايَ أعرفُ من أين تضرِبُهم سهامٌ/ تخرجُ من قوسِ الطفلِ المشاكسْ./ اليومَ/ حططتُ رِحاليَ بين أغصانِ شجرةٍ/ تميلُ بجذعِها على صفحة "دَربَندِخان"/ حيث ناداني صوتُ شاعرٍ: كُرديٍّ عراقيٍّ مصريٍّ قبطيٍّ/ أو "إنسان"/ قدّم لي قطعةَ من المَنِّ والسلوى"/ ثم قال: قبلما تَحزمين مِخلاتَكِ/ وتعودين إلى مصرَ/ خُذي من أرضِ كردستانَ/ كأسًا من ماء الفرات/ وصُبِّيه في ماءِ النيل/ حتى يلتقي النهران/ فلا ينامُ ظامئٌ ظامئًا/ ولا حزينٌ/ يدخلُ مِخدَعَه حزينًا/ ولا شريدٌ/ إلا ويجدُ نفسَه/ في حضنِ الوطن.
هذه بلد أحبها ، أجد فيها عصقورة الحب والسلام .