زيارة تتجاوز السياسة.. القاهرة في الوعي الكوردي

زيارة تتجاوز السياسة.. القاهرة في الوعي الكوردي
زيارة تتجاوز السياسة.. القاهرة في الوعي الكوردي

لم أتعامل مع زيارة مسرور بارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، إلى القاهرة بوصفها حدثًا سياسيًا عابرًا أو محطة بروتوكولية تقليدية، بل قرأتها باعتبارها لحظة ثقافية عميقة الدلالة، تستدعي التأمل أكثر مما تستدعي التحليل السياسي المباشر. فهي زيارة تعيد طرح أسئلة قديمة ومتجددة في آن واحد حول العلاقة بين مصر والأكراد، وتوقظ ذاكرة طويلة من التفاعل الإنساني والفكري بين ضفتي العروبة وكردستان، بما يتجاوز الحسابات الظرفية واللغة الدبلوماسية الجافة.

فالقاهرة، في الوعي الكردي، ليست مجرد عاصمة عربية كبرى أو مركز ثقل سياسي في المنطقة، بل مدينة رمزية بامتياز، شكّلت عبر تاريخها الحديث فضاءً مفتوحًا للأفكار، ومنصة لتلاقي الثقافات، ومركزًا لصناعة الوعي العربي الحديث. هنا تشكّل الوعي القومي العربي، وهنا تبلورت مشروعات النهضة والتنوير والحداثة، وهنا ازدهرت الصحافة والفكر والفنون. وفي هذا المناخ، وجد كثير من المثقفين الأكراد، على امتداد عقود، مساحة للتعبير والحوار والانخراط في المجال الثقافي العربي، دون أن يُطلب منهم التنازل عن هوياتهم أو خصوصياتهم الثقافية.

ومن هذا المنظور، لا يمكن فصل زيارة مسؤول كردي رفيع المستوى إلى القاهرة عن هذا الرصيد الرمزي المتراكم في الذاكرة الكردية. فالقاهرة لم تكن يومًا مدينة بعيدة عن الوجدان الكردي، بل كانت حاضرة بوصفها نافذة على العالم العربي، وملتقى للأفكار، وجسرًا للتواصل الحضاري. ولذلك فإن العودة إلى القاهرة، في هذا التوقيت تحديدًا، تحمل معنى يتجاوز السياسة إلى ما هو أعمق وأبقى.

وما يلفت الانتباه في هذه الزيارة أنها تأتي في زمن تتراجع فيه اللغة الثقافية لصالح لغة المصالح الصلبة، وتغلب فيه الحسابات الاقتصادية والأمنية على ما عداها. ومع ذلك، بدا أن ثمة وعيًا كرديًا متجددًا بأهمية مصر، لا فقط بوصفها لاعبًا سياسيًا إقليميًا، بل باعتبارها قوة ناعمة قادرة على إحداث توازن معنوي وثقافي في منطقة تعصف بها الاستقطابات والانقسامات. فالعلاقة بين مصر والأكراد، تاريخيًا، لم تُبنَ على الصراع أو القطيعة، بل على التعارف والاحترام المتبادل، وعلى أشكال متعددة من التداخل الثقافي والإنساني.

لطالما نظر الأكراد إلى مصر بوصفها حاضنة للتعدد، ومكانًا يتسع للاختلاف من دون أن يلغي الخصوصيات أو يفرض نموذجًا واحدًا للهوية. وفي المقابل، كانت الثقافة المصرية، من الأدب إلى الصحافة، ومن السينما إلى الأغنية، حاضرة بقوة في الوجدان الكردي، تشكّل جزءًا من المخيلة الجمعية، وتمنح إحساسًا بالانتماء إلى فضاء حضاري أوسع، يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية. ومن هنا، يمكن فهم زيارة مسرور بارزاني إلى القاهرة بوصفها رسالة رمزية تؤكد أن الثقافة تسبق السياسة، وأن الحوار الحقيقي يبدأ من الاعتراف المتبادل، لا من منطق الغلبة أو فرض الشروط.

ومن زاوية شخصية، أرى أن هذه الزيارة تفتح نافذة مهمة لإعادة تعريف العلاقة العربية الكردية خارج الصور النمطية التي علقت بها طويلاً. فالقضية الكردية، التي كثيرًا ما جرى اختزالها في بعدها السياسي أو الأمني، هي في جوهرها قضية ثقافة وهوية ولغة وذاكرة تاريخية. إنها تجربة إنسانية مركبة، تحمل أسئلة عميقة حول الانتماء والاعتراف والعدالة، ولا يمكن مقاربتها فقط من خلال المفاوضات أو الترتيبات السياسية.

ومصر، بتاريخها الطويل في احتضان التنوع الثقافي والديني واللغوي، قادرة على أن تكون شريكًا ثقافيًا حقيقيًا في هذا المسار، لا مجرد وسيط سياسي أو طرف دبلوماسي. فهي بلد خبر التعدد، وعاش التفاعل بين الهويات المختلفة، وراكم تجربة ثرية في إدارة الاختلاف داخل نسيج اجتماعي واحد. ومن هنا، فإن دورها في بناء جسور ثقافية مع إقليم كردستان يمكن أن يكون أكثر تأثيرًا وعمقًا من أي اتفاق سياسي مؤقت.

إن توطيد العلاقات بين مصر وإقليم كردستان لا ينبغي أن يقتصر على الاتفاقات الرسمية أو الزيارات المتبادلة، على أهميتها، بل يجب أن يمتد إلى مجالات أكثر رسوخًا، مثل الترجمة المتبادلة، والتبادل الثقافي، والتعاون بين الجامعات، والمراكز البحثية، وتنظيم المؤتمرات الفكرية، وفتح مساحات حقيقية لحوار المثقفين والفنانين. ففي هذا الحيز الإنساني والثقافي تُبنى العلاقات الأعمق، وتُصان من تقلبات السياسة وتبدل التحالفات.

كما أن استعادة الدور الثقافي للقاهرة في محيطها الإقليمي لا تنفصل عن مثل هذه اللحظات الرمزية، التي تعيد التأكيد على أن مصر ليست فقط دولة مركزية سياسيًا، بل حاضنة تاريخية للفكر والمعرفة والتنوع. وهو دور يلقى صدى خاصًا في الوعي الكردي، الذي طالما رأى في القاهرة مدينة تتكلم لغة الثقافة قبل لغة السلطة، وتمنح الشرعية للمعنى لا للقوة.

وأعتقد أن زيارة مسرور بارزاني إلى القاهرة تمثل تذكيرًا مهمًا بأن هذه المنطقة، رغم ما تعانيه من أزمات، لا تزال قادرة على إنتاج لحظات تفاهم حقيقية، إذا ما أُحسن الإصغاء إلى صوت الثقافة، وأُعيد الاعتبار للبعد الإنساني في العلاقات بين الشعوب. فحين تلتقي القاهرة بكردستان على أرضية المعرفة والاحترام المتبادل، يصبح المستقبل أقل قسوة، وأكثر قابلية للحلم، وأكثر انفتاحًا على إمكانات التعاون الخلّاق والبناء المشترك.