لمَ الخوف من التصريحات "الخيالية" لرغد صدام؟

Kurd24

أثارت التصريحات التي أطلقتها رغد صدام حسين خلال لقائها مع قناة العربية العديد من ردود الفعل مؤيدة كانت أم معارضة، حيث نجحت ابنة صدام في إعادة تسليط الأضواء عليها بعد أن كانت قد نُسيت تقريباً من قبل كثير من المتابعين لسيرة وماضي عائلة صدام حسين وحاضر ما تبقى منها.

‏بعض من ردود الفعل وصل إلى حد مبالغ فيه من قبل قوى عراقية لتثبت بأنها ما زالت متخوفة من عودة النظام السابق، بأي شكل من الأشكال، وهذا دليل واضح على أن تلك القوى لم تستطع وحتى هذه اللحظة من إصلاح ما أفسده النظام السابق بل زادت الطين بلة، وبتصرفاتها جعلت العديد من الأطراف المجتمعية في داخل المجتمع العراقي يتحسرون على أيام لم تكن بأحسن مما نعيشها اليوم في إطار عملية سياسية من المفروض أنها (ديمقراطية).

‏وهنا لا ألوم ولا انتقد العربية على هذه المقابلة، لهذه القناة ولأي قناة أخرى الحق في الحوار والتحاور مع أي شخصية كانت، وأولاً وأخيراً هذه المؤسسة إعلامية وتستطيع محاورة الجميع وكل الأطراف إن أعجبت هذا الطرف أو ذاك أو لم تعجبه، حيث تريد العربية أن تثبت بأنها تطرق جميع الأبواب وتتواجد لدى جميع الأطراف وهي تستقبل في الوقت ذاته ردود الفعل على هذا اللقاء وتفتح المجال أمام الطرفين من مؤيد ومعارض بالإضافة إلى المجال الذي فتحته أمام رغد صدام، ولكن ‏لا يمكن أن تصل ردود الفعل في إطار عملية سياسية ديمقراطية إلى حد المطالبة بإغلاق مكتب القناة في بغداد بسبب تصريحات اطلقتها سليلة رئيس النظام السابق وهي ـصلاً تصريحات لا يستوعبها أي عقل عاقل ولا تدعو الى القلق والهلع لأنها وباختصار لا تتوافق مع الواقع المرير الذي كنّا نعيش فيه في العراق قبل عام 2003.

لا تستطيع أي من القوى التي كانت ومازالت تدافع وباستماتة عن نظام البعث الذي لم يسلم منه الصديق ولا العدو، إن تنكر الكم الكبير و الهائل من المآسي التي عاشها العراق في ظل هذا الحكم حيث جرب كل أنواع التعذيب الجسدي والنفسي بحق كل مواطن عراقي ولم يسلم منه أحد لا كوردي ولا شيعي ولا حتى سني، بل أن أقارب صدام حسين ومن ضمنهم زوج رغد نفسه لم يسلم من العقاب والبطش الذي كان يشكل السمة المهمة والأساسية لنظام حزب البعث الذي طغى في حكمه لمدة أكثر من ثلاثة عقود.

إن من يستمع إلى تصريحات رغد صدام حسين لن تنتابه إلا نوبة من الضحك الهستيري من شر البلية عندما يقارن ما رآه على الواقع وما يراه يومياً عبر مواقع التواصل الاجتماعي من مقاطع فيديو للجرائم التي كانت ترتكب في زمن النظام السابق وبموافقة وتوقيع من والد رغد بحد ذاته، ‏فإن لم يكن (بابا صدام) يحب الدم فمن الذي وافق على قصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية ومن الذي ارتكب عمليات الأنفال في كوردستان، هذا بالإضافة إلى قتل وحرق المعتقلين السياسيين في السجون وإذابتهم في الأسيد وضياع مصير عشرات الآلاف منهم، ولا ننسى أيضاً التجفيف الذي تعرضت له الأهوار واغتيال شخصيات سياسية ودينية واجتماعية في عموم العراق لمجرد رفض السكوت عن بطش أزلام النظام.

أما أن كان (أبو رغد) شخصاً مرحاً يحب النكتة والضحك فمن الضروري أن تعرف هي ومن يدافع عنها بأن البعث شكل دولة بوليسية كانت تعدم مواطنيها على النكتة وتعتقل على مجرد السخرية من موضوع يخص النظام بل وتعتقل حتى من سمعها وأضحكته ومن سمعها ولم ينتقد قائلها ومن سمعها وسكت ومن سمعها ولم يترك مكان الجلسة الذي قيلت فيه النكتة ولم يخبر رجال الأمن عليها، باختصار.. لم يثق حتى الأخ بأخيه.

ولكن، وبعد ما يقارب 18 عاماً، هل وصل الحد بهذه الدولة أن تتزعزع أركانها بسبب تصريحات خيالية لا يصدق بها حتى العقل المريض؟ لما كل هذا الهلع من كلام صدر عن شخص لا يمت للسياسة بصلة؟ هل وصل بهم الوضع لهذا الحد من الخوف لفقدان نفوذهم ومناصبهم وسيطرتهم السياسية؟ إذن فما فائدة الرسائل التي توجه من خلال التجمعات المليونية التي نشهدها من هذا الطرف أو ذاك؟

لقد اثبتت ردود الفعل لدى المعترضين على كلام رغد بهذه الطريقة وجود فجوة عميقة من انعدام الثقة بين الأحزاب المتنفذة في حكم العراق وجماهيرها لأنها وبكل صراحة لم تنتج خلال العملية السياسية غير مزيد من البطالة والتشرد والفساد وإنعدام ما تبقى من السيادة ورقعة واسعة من التدخل الخارجي في أمور العراق كافة، حيث لا حكومة تتشكل دون موافقة هذه الدولة أو تلك، ولا قانون ينفذ دون فلاترهم وحتى الدستور في هذه الظروف بات وثيقة مكتوبة لا تنفذ بدليل انتهاك أكثر من 50 مادة منها.

كما بينت أيضاً أن كل هذه الأطراف تتخوف من أي انفجار للوضع السياسي ستتولد عنه الكثير من الأمور غير المستحبة لأنهم لم يضعوا أسساً لدولة قوية لا تتأثر بتصريح من الممكن أن يقلب كل الموازين على بعضها، لانهم لا يؤمنون أصلاً بأسس الدولة وهيبتها ولم يتحدثوا عن القوانين والأسس الدستورية إلا مع إقليم كوردستان (وبالتأكيد مع فهم خاطئ ومشوه للدستور).

وفيما يخص الإقليم، لم يهتم الراي العام في كوردستان بما قالته ابنة صدام لان والدها كان قد انتهى بعد انتفاضة عام 1991 بعد تدمير اكثر من 4500 قرية واستشهاد وتشريد مئات الآلاف وإزالة صفة المواطنة من كل كوردي لم يعجبه هذا النظام، وزال خطره بعد سقوط نظامه ومحاكمته ولم يشمت احد بطريقة إعدامه ونهايته لان الإقليم اهتم بفترة ما بعد صدام واصبح اليوم ملاذا آمنا للآلاف ممن لم يجدوا هذا الملاذ في مدن وسط وجنوب العراق.

إن ما يعيشه العراق اليوم ليس إلا تنفيذ حقيقي وصحيح لفكرة الدولة العميقة الفوضوية والتي لا تقبل غير رأي المتنفذين فيها، أي أن أسلوب الحكم فيها لم يختلف عما كان موجوداً في زمن حكم من سبقهم، فإن كانت الدكتاتورية في ذلك الزمن فردية أصبحت اليوم جماعية لا يعرف فيها من هو الصديق من العدو، ومهما وصلت قوة هذه الدولة ونفوذها فلن يكون حظ استمرارها بأكثر من حظ "دولة صدام" التي لم يتوقع حتى من يحكمون اليوم بانها ستنتهي بهذه الطريقة، وإلا كيف لدولة من المفروض أن تكون قوية ثابتة الأسس أن تتأثر بتصريحات لن نحتاج الى تفنيدها لأكثر من كبسة زر عبر الشبكة العنكبوتية؟