نزيهه الدليمي الراهبة المتصوّفة في صورتها السياسية
حين طلب منّي عبد الجبّار رضا العلي، وهو صديق من أيام الشباب الأولى، حيث كنّا بخليّة حزبيّة واحدة نتلمّس طريقنا إلى الحياة السياسية بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958، وكأعضاء بالحزب الشيوعي في العام 1960، الكتابة عن الدكتورة نزيهه الدليمي، استعدت اسمها الذي كان يتردّد في منزلنا منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، فقد كان يرد مصحوبًا بالإعجاب، وكان عمي الدكتور عبد الأمير شعبان قد سبقها إلى كليّة الطب، لكن علاقته بها كانت قويّة، وغالبًا ما كان يمازحنا في الستينيات، كيف أنها ممثلّة البروليتاريا، في حين أنه ممثّل البرجوازية الوطنية.
وكان الدكتور خليل جميل الجواد (الخليلي)، وهو من الشيوعيين الأوائل في النجف، وصديق العائلة، على صلة وثيقة بالدكتورة نزيهه الدليمي، وهو من أوصى بمراجعة والدتي لها، والتي ظلّت تردّد اسمها في البيت بكثير من الامتنان والدعاء، مشيدةً بعملها وإنسانيتها لعلاجها لها واهتمامها بها. أما آل الخليلي، فهم متوزّعون بالقرب من بيوتنا، وخصوصًا في محلّة العمارة، وبشكل خاص في عكد السلام في النجف، حيث ولدت في ذلك الزقاق القريب من الصحن العلوي، وينتشر فيه العديد من عوائل آل شعبان، معظمهم في حضرة الإمام علي، أمّا مدرسة الخليلي الدينية فلها شهرة واسعة، وتقع بالقرب من منزلنا الكبير في النجف، ومنها تخرّج المئات من طلبة الحوزة الدينية بمن فيهم بعض اليساريين العراقيين والعرب، الذين أصبح لهم شأن كبير، ومنهم حسين مروّة ومحمد شرارة وغيرهما.
وكان اسم الدكتورة نزيهه يأتي على لسان العم شوقي بين الحين والآخر أيضًا، فقد كان عضوًا في الحزب الشيوعي منذ أواسط الخمسينيات، وكان دائم الإشادة بمناقبيتها كإمرأة مناضلة ومؤسسة لرابطة الدفاع عن حقوق المرأة في العراق، المنظمة السريّة التي ساهمت في تأسيسها وقيادتها بتوجيه من الحزب الشيوعي، حيث تأسسّت في 10 آذار / مارس 1952، وفي الفترة ذاتها وأخرى سبقتها تأسسّت منظمات مهنية وشعبية مثل "اتحاد الطلبة العراقي العام"، في 14 نيسان / أبريل 1948، ومنظمة أنصار السلام التي بدأت التحضيرات لها في العام 1950، وأُعلن عن تأسيسها رسميًا العام 1954، واتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في 15 تشرين الأول / أكتوبر 1951، وقد عملت نزيهه الدليمي في حركة أنصار السلام أيضًا.
علمًا بأن رابطة المرأة واتحاد الشباب الديمقراطي، والإرهاصات الأولى لحركة أنصار السلام، كانت بمبادرة من بهاء الدين نوري الذي أصبح المسؤول الأول، وتولّى قيادة الحزب الشيوعي من العام 1949 ولغاية العام 1953، والذي اعتُقل في ربيع العام المذكور بمحلة السفينة بمنطقة الأعظمية ببغداد، وقضى بالسجن عدّة سنوات، ولم يتحرّر منه إلّا بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958.
وقد عرفْت من الدكتور خليل جميل (مرشّح الجبهة الوطنية للانتخابات العام 1954)، وهو صديق العائلة، الأعمام والأخوال، ولاسيّما العم د. عبد الأمير شعبان والعم ضياء شعبان والخال ناصر حمود شعبان، إضافة إلى صداقتنا مع زوجته ماجدة المانع وشقيقتها مائدة المانع، وهي صديقة شقيقتي سلمى، أن نزيهه ارتبطت معه بعلاقة خاصة، وأنها كانت تتردّد على النجف لعلاقة صداقية وحزبية، خصوصًا خلال فترة انشطار الحزب إلى جناحين، أحدهما عُرف باسم "راية الشغيلة"، وهو الجناح المعتدل، والثاني أخذ اسم "القاعدة"، وهو الأكثر راديكالية وتشدّدًا، وقد عملت قيادة سلام عادل، التي تولّت إدارة الحزب في العام 1955، على تنقية الأجواء والتوصّل إلى معالجات مقبولة لتسوية الصراعات الحزبية الإقصائية، والتي تتّخذ عادةً طابع التشهير وكيل الاتهامات دون مراعاة للاعتبارات المبدئية والأخلاقية، وهي الطريقة التي تميّزت بها جميع الأحزاب الشمولية في خلافاتها الداخلية، التي غالبًا ما تكون حادّة، بل تدميرية للذات وللآخر، وإن كان من القماشة ذاتها، لكن قيادة سلام عادل أقدمت عل إجراءات ومعالجات رضائية شجاعة، ضمنت احترام كرامة جميع الاطراف.
وبذلك استوعبت الظروف والأوضاع العامة والخاصة، الشخصية والنفسية للمتصارعين، مسدلة الستار على فترة صعبة ومعقّدة للغاية من تاريخ الحركة الشيوعية واليسارية، وأعادت الجميع إلى طريق الوحدة المبدئية، وبذلك تمكّنت من التفرّغ والتوجّه إلى تحقيق وحدة الحركة الوطنية، بالتوصّل إلى عقد جبهة الاتحاد الوطني في آذار / مارس 1957 بين الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الاستقلال وحزب البعث، والتفتت إلى الجيش وقامت بتنشيط العمل في تجمّع الضبّاط وضباط الصف والجنود، سواء بكسب نُخب منهم إلى الحزب أو إلى الحركة الوطنية، خصوصًا بتأسيس حركة الضباط الأحرار بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم ورفيقه عبد السلام محمد عارف.
كانت ثورة 14 تموز / يوليو 1958 مناسبة عظيمة لانطلاق طاقات الحركة الجماهرية، ومنها رابطة المرأة العراقية التي كانت بقيادة د. نزيهه الدليمي، وبلغ عدد أعضاء الرابطة نحو 40 ألف عضوة، علمًا بأنها انتسبت إلى اتحاد النساء الديمقراطي العالمي في العام 1953، وعقدت أوّل كونفرنس (سرّي) لها في العام 1954، وساهمت بنشاط في جبهة الاتحاد الوطني.
ويعود تأسيس الرابطة إلى محاولات سبقتها، ففي فترة الحرب العالمية الثانية، تشكّلت الجمعية النسائية لمكافحة النازية، التي انضمّت إليها نزيهه الدليمي قبل أن تصبح عضوًا في الحزب الشيوعي. وقد تخرّجت من كليّة الطب في العام 1947، وحصلت على عضوية الحزب في العام 1948.
في 13 تموز / يوليو وبمناسبة مرور عام على ثورة 14 تموز / يوليو، عُيّنت د. نزيهه الدليمي وزيرة للبلديات، وكانت أول إمرأة في تاريخ العراق والمشرق تحصل على هذا المنصب الرفيع، لكن الصراعات السياسية الحادة والاندفاعات الطفولية غير المبرّرة للأطراف السياسية المختلفة، ولاسيّما محاولات احتكار العمل السياسي والمهني والنقابي، بارتفاع وتيرة العنف ومحاولات تجيير الثورة لصالح هذا الفريق واستبعاد الفريق الآخر، الأمر الذي وفّر الفرصة لقيادة الثورة، وللزعيم عبد الكريم قاسم تحديدًا لإقصاء الجميع والانفراد بالحكم والاستدارة به نحو الديكتاتورية الفردية، بدلًا من إجراء انتخابات لاختيار مجلس نواب (برلمان) يتم من خلاله تشريع دستور دائم للبلاد، وإنهاء الأوضاع الاستثائية وفترة الانتقال التي استمرّت لأربع سنوات ونصف السنة بدستور مؤقت وضعه الطيب الذكر حسين جميل في 27 تموز / يوليو 1958، حتى حصول الانقلاب المشؤوم في 8 شباط / فبراير 1963، فألغيت آخر الهوامش الديمقراطية، ولوحق منتسبوا الأحزاب، باستثناء حزب البعث الذي وصل إلى السلطة، كما أُلغيت إجازات المنظمات المهنية ومنها رابطة المرأة، لكن د. نزيهه التي تم إعفاؤها في فترة قاسم، التحقت بسكرتارية اتحاد النساء الديمقراطي العالمي في برلين، ونشطت مع قيادي الحزب في الخارج ضدّ انقلاب شباط / فبراير.
بين برلين وموسكو وبراغ استمرّت د. نزيهه الدليمي في تحشيد الرأي العام انتصارًا للمرأة العراقية ومنظمتها المهنية التي تعرّضت للعسف، وشاركت في فاعليات وندوات عالمية لفضح الإرهاب والتعذيب الذي تعرّضت له العديد من عضوات الرابطة البارزات، إضافة إلى العديد من الشيوعيين والوطنيين.
شاركت نزيهه في تأسيس لجنة الدفاع عن الشعب العراقي، التي ترأسها الشاعر الكبير الجواهري، وضمّت عددًا من الشخصيات اليسارية والوطنية منها: الروائي ذوالنون أيوب والفنان محمود صبري صاحب نظرية واقعية الكم، ونوري عبد الرزاق الأمين العام لاتحاد الطلاب العالمي وعزيز الحاج ممثل الحزب الشيوعي في براغ – مجلة الوقت (مجلة قضايا السلم والاشتراكية لاحقًا)، وفيصل السامر وزير الإرشاد سابقًا ومؤلف كتاب ثورة الزنج (أطروحته للدكتوراه)، وغائب طعمة فرمان الروائي المعروف الذي اشتهر برواية "النخلة والجيران" التي حوّلتها فرقة المسرح الفنّي الحديث إلى مسرحية في بغداد العام 1967، وصلاح خالص صاحب ورئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة والمثقف البارز، وهاشم عبد الجبار أحد الضباط الأحرار، وعبد الوهاب البياتي أحد رواد الحداثة الشعرية، ورحيم عجينة سكرتير الشبيبة الديمقراطية، كرد فعل لانقلابيي شباط / فبراير، مما دفع الحكومة العراقية للإقدام في 26 تشرين الأول / أكتوبر 1963 على إجراء تعسّفي بإسقاط الجنسية عن 12 شخصية ثقافية وأدبية وسياسية من ضمنهم الجواهري ونزيهه الدليمي.
بعد انقلاب 17 تموز / يوليو 1968 وحدوث انفراج في الحياة السياسية، عادت نزيهه الدليمي إلى بغداد بعد صدور عفو عام ووقف التعقيبات القانونية، وعاودت نشاطها في بغداد في ظرف شبه علني، ثم علني بعد إبرام ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية بين حزب البعث الحاكم وبقيادته والحزب الشيوعي (العام 1973).
وخلال تلك الفترة أيضًا، عملت في إطار مجلس السلم والتضامن، الذي تم تأسيسه برئاسة عزيز شريف، وتمثّلت قيادته الفعلية بحزب البعث والشخصيات التي نسّبها لهذه المهمّة وبالتعاون مع شخصيات شيوعية كانت عضوة في مجلس السلم العالمي (هلسنكي)، منها كريم أحمد وعامر عبد الله ونوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ وصفاء الحافظ ورحيم عجينة وبشرى برتو.
وقد تعطّلت هذه التجربة التي شاركت فيها نزيهه بعد انفضاض الجبهة مع حزب البعث والملاحقات التي طالت الشيوعيين وأصدقائهم. وقرّرت حينها قيادة الحزب تشكيل فريق خاص لمواصلة مهمة مجلس السلم السابقة بالتعاون مع قوى وشخصيات أخرى. وقد أوكلت لي مهمة إعادة تأسيس اللجنة، وأَجريتُ اتصالات بالعديد من الشخصيات العامة، ودعوتها للانضمام إلى اللجنة الوطنية للسلم وأضيفت إليها كلمة "التضامن" في وقت لاحق. واقترحت على إدارة الحزب الإبقاء على جميع الأعضاء السابقين، وهم كلّ من: عامر عبد الله ونزيهه الدليمي وكريم أحمد ونوري عبد الرزاق ورحيم عجينة ومهدي الحافظ وصفاء الحافظ (على الرغم من اختفائه قسريًا) وبشرى برتو، ودعوت عددًا من الشخصيات للانضمام إلى اللجنة بينهم الجواهري ومحمود صبري وعلي الشوك، إضافة إلى مسعود البارزاني وباقر ياسين ومحمد الحبوبي وهاشم علي محسن وفاضل الأنصاري وآخرين.
وعقدنا عامر عبد الله وكاتب السطور اجتماعًا مطولًا مع نوري عبد الرزاق خلال زيارته إلى دمشق، وبحضور مهدي الحافظ، خصوصًا وأن الرئيس ظلّ في موقعه والمقصود عزيز شريف، وكان ذلك يتفق مع توجّهنا على الرغم من تعقيدات المشهد السياسي. ولكننا طلبنا من مجلس السلم العالمي قبولنا كأعضاء في إطار التعددية التنظيمية، ودعوتنا للفعاليات والأنشطة التي يعقدها. وكان للدكتورة نزيهه رأي آخر يختلف في تفاصيل بعض التوجهات التي حاولنا تكييفها وفقًا لمتطلبات التغييرات في الخريطة السياسية والمهنية.
وكتبنا رسائل إلى السيد شاندرا، رئيس مجلس السلم العالمي باسم اللجنة الوطنية للسلم، وأطلعناه على قائمة الأعضاء الجدد والتركيبة الواسعة التي ضمّت شخصيات مختلفة لأول مرّة، كما أبلغناه عند اللقاء، الإبقاء على اسم عزيز شريف على الرغم من أن المجموعة الرسمية الحكومية هي الأخرى أبقت إسمه، وعمليًا كان خارج البلاد في إقامة متّصلة تقريبًا في موسكو.
في مطلع العام 1982 وُجهت إلى اللجنة الدعوة لحضور مؤتمر عالمي لمجلس السلم انعقد في عدن (اليمن الديمقراطي) حول الوجود العسكري الإمبريالي في الخليج، وتشكّل الوفد باقتراح من إدارة الحزب برئاسة عامر عبد الله وعضوية نزيهه وكاتب السطور (المنسق)، والتقينا خلال وجودنا في اليمن بالرئيس علي ناصر محمد، واقترح علينا زيارة أديس أبابا، وقام عامر عبدالله بتلبية دعوة رسمية وصلت من أثيوبيا، في حين اعتذرت نزيهه عنها، ولم أشأ أن أتركها لوحدها على معرفتي بحساسيات الوضع الحزبي والمزاج الشخصي، كما عقدنا عدّة اجتماعات مع العديد من الوفود العربية والأجنبية لشرح موقفنا من الحرب العراقية – الإيرانية ومبرّرات وجودنا كمنظمة مستقلة جديدة.
في عدن حصلت احتكاكات مع الوفد الحكومي الذي ترأسه الدكتور عصام عبد علي، بسبب الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية، وقد خاطب عبد علي، عامر عبدالله بقوله: ليس من حقّكم أن تتحدّثون عن الحرب، فهذا اختصاص الحكومة العراقية فقط، وردّت عليه نزيهه: نحن معنيون بقضيّة السلام ووقف الحرب.
ثم قال عامر عبدالله في كلمته: إن الحرب العراقية – الإيرانية لا تخدم سوى الإمبريالية والصهيونية، مدينًا من أشعلها ومن يستمرّ فيها، ولا بدّ من العمل على وقفها فورًا، والجلوس إلى طاولة مفاوضات في إطار ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، وهي الكلمة التي كنت قد هيّأتها باسم الوفد، والتي ألقاها عامر عبدالله، وزاد عليها أن الحرب شكّلت أهم تهديد للسلم والأمن الإقليميين والدوليين، وباعتبارنا دعاة سلام، فلا بدّ من العمل بجميع الوسائل المشروعة على وقفها، حيث ألحقت ضررًا بمصلحة الشعبين الجارين، مع التأكيد على احترام السيادة ووحدة الأراضي واللجوء إلى حلّ الخلافات بالمفاوضات وبالوسائل السلمية. وطالب عامر عبدالله من مجلس السلم العالمي القيام بمهمة وساطة بين البلدين لما فيه مصلحة الشعبين وتنميتهما وتعزيز قدراتهما للوقوف ضدّ الإمبريالية والصهيونية والوجود العسكري الإمبريالي في المنطقة، بما فيه القواعد العسكرية.
كانت مفاجأة لنا تهرب شاندرا من لقاء وفد اللجنة، حيث اجتمعنا به في بهو الفندق (غولدمور)، وبعد أن شاهد عصام عبد علي والوفد المرافق له ينزلون من المصعد الكهربائي اعتذر منّا وقال أنه سيعود بعد قليل، لكنه غادر الفندق ولم يعد، وكم أحزن ذلك عامر عبدالله الذي قال لي أنه أحد الذين توسطوا لدى السوفييت لكي يتم اختياره لهذه المهمة، وكذلك مع قيادة الحزب الشيوعي الهندي لكي يستمرّ في مهمته. أمّا نزيهه فقد نظرت إلى الأمور بواقعية أكثر بقولها أن الظروف تبدّلت وأن مواقفنا اختلفت، لذلك فهؤلاء وغيرهم يتغيّرون أيضًا، فضلًا عن أن بعضهم بحكم طول عمله في المنظمات الدولية يصبح موظفًا يأتمر بمرجعيته الوظيفية بعيدًا عن مرجعيته النضالية والمبدئية. لكنها هي الأخرى شعرت بحسرة كبيرة، حيث تبدّدت مواقعنا الدولية، بعضها موضوعيًا والآخر بحكم قصور مواقفنا، وهذا هو رأيي.
حاولت أن أمازح عامر ونزيهه، فقلت لهما أنتما وزيران سابقان وعضوان مخضرمان في إدارة الحزب، فماذا تشعران إزاء المستقبل؟ وأين هي مسؤولياتكما؟ ودار نقاش بينهما، حاولت أن أدخل عليه بين الحين والآخر، خصوصًا اختلافاتهما في طريقة التفكير وتقييم الماضي والنظر إلى المستقبل.
بعد سفر عامر عبدالله إلى أديس أبابا، انتهزت فرصة بقاءنا في عدن، وفتحت حوارًا مع نزيهه، التي كنت قد اجتمعت معها عدّة مرّات خلال لقاءات حزبية، من بينها حوار مطوّل حول المستجدات العراقية وموقفنا منها، وذلك يوم جاءت لتمثيل الحزب الشيوعي في مجلة قضايا السلم والاشتراكية، وكنت حينها قد أنهيت دراسة الدكتوراه وأتهيأ للعودة إلى العراق في العام 1977، وطرحت عليها عدّة مواضيع بعضها سياسي مثل موقفها من خط آب / أغسطس 1964، والعلاقة مع عبد الكريم قاسم وصحبتها لسلام عادل، ودورها في إعداد قانون رقم 188 العام 1959 بشأن الأحوال الشخصية، ومحاولات القوى التقليدية والمحافظة الوقوف ضدّه، وأين هي اليوم من القانون المذكور الذي ساوى بين المرأة والرجل واشترط أن يكون الزواج مدنيًا وفي المحكمة، وحدّد العمر المناسب لذلك، إضافة إلى المساواة في الإرث فيما يتعلّق بالجوامع بين المذاهب لاختيار أفضل ما فيها، وكانت إجاباتها محافظة ومتحفّظة بشكل عام باستثناء نقدها لفترة الجبهة.
وسألتها، هل أحبّت وكم مرّة؟ ولماذا لم تتزوّج وغيرها من الأسئلة؟ بعد أن بادرت هي لتسألني عن علاقاتي الشخصية وبعض خصوصياتي، وكنت أعرف بعض التفاصيل التي أشّرت إليها، فقالت أنها علاقة حب واحدة، لكنها لم تكتمل بسبب الظروف والأوضاع السياسية والتباعد، وقد رهنت حياتها كلّها بعد ذلك للحزب ولقضية المرأة، وقالت نجحنا حينًا وفشلنا في أحيان أخرى، لكن السبعينيات على كلّ ما فيها من مساوئ، قدّمت منجزات لقضية المرأة، ولاسيّما في العام الدولي للمرأة 1975، إلّا أن الحرب جاءت لتأكل الأخضر واليابس، وتلغي وتجمّد وتسوّف الكثير منها، ووجدت تشريعات متخلفة طريقها إلى الواقع مثل غسل العار والثأر والانتقاص من دور المرأة بإحياء التقاليد العشائرية المتزمّتة.
قالت بعد هذه المسيرة أنها تشعر أن الكثير من الشابات والشبان هم أولادها، وهو ما يشعرها بالتفاؤل على الرغم من المرارات والحرمانات. وأنها كانت تتمنّى لو أن الظروف طبيعية لاستمرّت في مهنة الطب التي عشقتها، وظلّت بالرغم من ابتعادها عنها تحاول الاطلاع على ما هو جديد بشأنها.
سألتها عن علاقتها بخليل جميل الجواد، قالت أنها علاقة عميقة وطيبة وذكراها ما تزال لحدّ الآن. وكنت أشعر أنه أكثر من زميل وأكثر من رفيق لها، بل هو صديق حميم حتى وإن باعدت الظروف بينهما، وظلّت تتطلّع إلى سماع اخباره واللقاء به.
وقالت أنها تالّمت كثيرًا حين سمعت أن حادث اصطدام أودى بحياته في العام 1978، ولا تدري هل هو حادث مدبّر أم أنه قضاء وقدر؟ وظلّ خليل جميل يمثّل الشيوعية بنقائها ومستقبلها حتى وإن لم يعد حزبيًا، كما ذكرت. فقلت لها أن بطاقة العضوية ليست دليل انتماء، الانتماء وجداني وقيمي وروحي. وذكرنا بعض الأمثلة المشتركة التي تعرفها.
ناقشتني حول بعض الأسماء ممن اعتبرتهم أصدقاء، وكان لديها ملاحظات على بعضهم، مباشرة أو غير مباشرة، ومن جانبي تداولت معها بأسماء أخرى من ذات القماشة التي جاءت عليها، واعتبرتُ ذلك مجرّد تراكمات واحتكاكات في العمل وحساسيات شخصية تتولّد بسبب بعض التصرفات والمواقف .
في الشام تعزّزت علاقتي بنزيهه، وحين قرّرت الالتحاق بالأنصار ودّعتها ودعتني إلى منزلها، وكانت قد جاءت من سفرة خارجية، وحين عدت أوصلت البريد الذي حمّلني إياه جاسم الحلوائي إليها في المنزل ذاته، وذلك بعد نجاتي من مجزرة بشتاشان، التي نفذها الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) 1983.
وكانت تلك الفترة تزدحم بالكثير من الآراء ووجهات النظر والاختلافات، بما فيها الموقف من الحرب العراقية – الإيرانية، وغيرها من القضايا، وتباعدت المواقف، وكانت هي تعمل في لجنة سعيد (لإدارة الحزب في الشام)، التي شهدت صراعات حادة وإجراءات انضباطية، كان ذروتها الاختلافات بشأن المؤتمر الرابع 1985، حيث تم تنحية العديد من إدارة الحزب وكوادره، بما فيهم نزيهه الدليمي وزكي خيري وعامر عبدالله وباقر ابراهيم وحسين سلطان وعدنان عباس وماجد عبد الرضا ونوري عبدالرزاق ومهدي الحافظ وجاسم الحلوائي وبهاء الدين نوري وعبدالوهاب طاهر وناصر عبود وبشرى برتو وآخرين، اختار بعضهم تأسيس تيار موازي، في حين استمرّت نزيهه وآخرين في ذات الإطار، على الرغم من المرارات التي سبّبتها القرارات التي قادت إلى التصدّع.
لم تؤثّر تلك القرارات على سلوكها وتوازنها، واستمرّت في التزاماتها المبدئية والأخلاقية والشخصية، وقد اضطرّت إلى اللجوء السياسي في التسعينيات في ألمانيا، خصوصًا وقد تقدّم بها العمر، وزادت كميّة الأمراض التي تعاني منها، ولاسيّما الشيخوخة، والتقيت بها لعدّة مرّات في برلين خلال اجتماعات هيئات مؤتمرات لرابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين أو خلال هيئات حقوق الإنسان.
وكانت آخر مرّة اتصلت بها بعد أن وصلتني دعوة، وعرفت بأنها بترشيح من نزيهه لمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس اتحاد الطلبة 1998، ولكنني لم أستطع الحضور لارتباطات سابقة، وأرسلت كلمة تقيمية بهذه المناسبة، فيها مراجعات للتجربة، وهي تطوير واستمرار لكتابي الذي صدر في بشتاشان "لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق"، مطبعة طريق الشعب، بشتاشان، 1983، والذي أُتلف القسم الأكبر منه في مجزرة بشتاشان، وكان قد صدر في نيسان / أبريل 1983 (بمناسبة الذكرى اﻟ 35 لتأسيس اتحاد الطلبة)، ووزّع على بعض الفصائل، وكنت قد كتبته بتكليف من إدارة الحزب لانقطاع الخبرة والكادر، وليكون خلفية فكرية وتنظيمية للكوادر الجديدة بعد فترة التجميد السيئة الصيت للمنظمات الديمقراطية (1975). وقد طلبت مني إرسال نصّ الكلمة إليها، وفعلت ذلك، بأن طلبت من مهند البراك إعطاءها نسخة منها.
أستطيع القول أن د. نزيهه كرّست حياتها للنضال، وللنضال فقط، وليس لها سواه، وحرمت نفسها من الكثير من الملذّات، ولكن كما كان يقول إنجلز "السعادة في النضال والتعاسة في الخنوع"، فهي إمرأة بقدر بساطتها، لكنها تتمتّع بصلابة وقوّة إرادة، وعاشت ما يزيد عن 50 عامًا وهي عضوة في الحزب ولم تفترق عنه. وكانت قيادة سلام عادل قد أولتها اهتمامًا كبيرًا، وقبلها قيادة كريم أحمد، ولم تتردّد أو تتأخّر في أية مهمة أوكلت إليها حسب معرفتي، وهو ما أكده لي باقر ابراهيم (أبو خولة)، وامتازت بعفّة اللسان والأخلاقية العالية، وهو ما يقوله عنها حتى من يختلفون معها.
وبقدر ما كانت نزيهه تحب الأطفال فقد حُرمت منهم، ووفقًا لساهرة القرغولي (أم سوسن وسنا)، التي عَملت معها في قيادة الرابطة مع سعاد خيري وبثينة شريف، فقد كانت دائمة السؤال عمّن حولها من الأطفال، حتى بعد أن تباعدت السُبل، وهو ما لمسته منها خلال لقاءاتي بها في دمشق في الثمانينيات، وفي برلين في التسعينيات، وكنت أكثر من مرّة أصطحب معي إبنة أختي سلمى (رشا)، التي كانت تضحك للنكات الدمشقية التي ترويها لها بطريقتها الطفولية المحبّبة.
في الختام أستطيع القول أن نزيهه الدليمي انصرفت عن الحياة الخاصة، وقبلت بحياة الجماعة الزاهدة المتقشفة المشحونة بالآمال الكبرى، وكانت حالمة بتحويل المجتمع إلى المساواة وإلغاء استغلال الإنسان للإنسان، بما لا يخلو من المثيولوجيات والرومانسيات الخلّابة المفهومة وغير المفهومة، في إطار صرامة مع الذات تحاول فرضها على الآخر ضمن طقوس وتعليمات عاشت لها وكأنها في حالة طوارئ دائمة مستغرقة فيها، بل ومستعدة لكلّ مفاجئة.
الزهد والابتعاد عن مباهج الحياة هو الأقرب إلى حياة نزيهه الدليمي، لاسيّما باندماجها الكلّي بالجماعة، في حالة من التماهي التي هي أقرب إلى التصوّف، حتى وإن كان سياسيًا، وحسب ابن خلدون فالتصوّف نوع من الاعتكاف على العبادة والزهد، والإعراض عن زخارف الدنيا وزينتها، خصوصًا وقد عرفت ظروف العمل السرّي لسنوات، مثلما عاشت في المنافي وحيدة، لاسيّما في ظروفها الصحية الأخيرة، سوى من ابتسامتها الموحية بالمستقبل.
كانت نزيهه الدليمي أقرب إلى راهبة وهبت نفسها وحياتها لعقيدتها، واختارت حياة الزهد طواعية، ومثلما في الديانة المسيحية فإن الراهبات لا يتزوّجن، فإنها لم تتزوّج أيضًا، وثمة راهبات في الهندوسية والبوذية أيضًا، مثلما هناك راهبات سياسيات، ونزيهه الدليمي واحدة من أبرزهن.