الرومي: الروح ومدارك الكمال

الرومي: الروح ومدارك الكمال
الرومي: الروح ومدارك الكمال

أن تزور مرقد جلال الدين الرومي في قونية (تركيا)، حيث تصادف الذكرى اﻟ 750 لوفاته هذا العام (17 ديسمبر / كانون الأول)، فذلك له أكثر من دلالة، خصوصًا حين يزداد رصيده في الغرب، وتصبح كتبه وفلسفته الصوفية الأكثر إقبالًا، حسب هيئة الإذاعة البريطانية، والأكثر من ذلك حين تشاهد الآلاف من الزوار يتوافدون إلى مرقده، فبعضهم قرويون وبسطاء من عامة الناس، وبعضهم مريدون وطلّاب ومحبّون للشعر وسواح ثقافيون من مختلف أقطار العالم.

ويزداد شغفك حين تحضر عرضًا فنيًا راقيًا لفرقة الدراويش في اسطنبول، التي تمتزج فيها الموسيقى بالرقص الروحاني بحركات رياضية يختلط فيها الكبرياء بالخشوع بإتقان منقطع النظير وتدفّق وانسياب ودوران، فضلًا عن لغة شاعرية جذّابة، وأسلوب ساحر من الطهريّة الدينية الفائقة.

ظلّت حياة الرومي مليئة بالغموض، بقدر ما هي مليئة بالمعاني والعبر والدروس في العشق والفلسفة وأسرار مكنونات النفس البشرية، ولا تزال مصدر إلهام للباحثين والدارسين والمهتمين بأدب الرومي وحياته، فضلًا عن علاقته بتوأمه الروحي، شمس الدين التبريزي منذ اجتمعا في قونية لنحو عامين ونصف العام، اختفى فيها شمس بعد مرور 16 شهرًا وأرسل الرومي من يبحث عنه لياتي به من دمشق، لكن عودته الثانية لقيت سخطًا ورفضًا من العامة دفعه للاختفاء مرّة أخرى إلى الأبد، وربما تعرّض فيها للاغتيال. المؤكّد أن ظروفًا غامضة ظلّت تحيط باختفائه الثاني، الأمر الذي انصرف فيه الرومي عن الفقه والتدريس والعلوم الإسلامية إلى الشعر والصوفية والمناجاة والتعبير عن ألم الفراق، وهو ما تركه لنا من تراث صوفي إنساني باهر، حيث ما تزال كتبه تثير الكثير من الأسئلة الفلسفية، وأشعاره ترسم صورًا غنية بصفته شاعر الحب الصوفي، الذي وُلد في العام 1207 في بلاد فارس (خراسان – بلخ)، وهناك من يقول في أفغانستان، وقيل إن نسبه يمتدّ إلى الخليفة الأول ابي بكر الصدّيق (رض).

امتاز الرومي بكارزمية عالية، زاد فيها غموضه سحرًا بقدر ما امتلك من جاذبية في تقديم الحكمة العميقة مدافة بلغة عذبة. وكان أن عُرف بعد لقائه بشمس بطريقته المولوية، وقد بلغ قمّة شاعريته في "المثنوي". وعلى الرغم مما يفصلنا عنه، إلّا أن شعره يبقى الأكثر تأثيرًا في النفس البشرية.

وكانت عائلته قد تركت موطنها الأول بسبب الاجتياح المغولي، وهاجرت إلى قونية واستقرّت لبعض الوقت في نيسابور والري وبغداد والحجاز (مكة)، وكان عمره آنذاك 14 عامًا، قبل أن يستقرّ للدراسة في دمشق لينبغ فيها، ويتولّى بعد وفاة والده، الذي كان يُطلق عليه "سلطان العلماء"، حلقة التدريس من بعده، وهو الذي أصبح يكنّى ﺒ "سلطان العرفان" و "مولانا".

اشتمل ديوان "شمس تبريز"، بعد اختفاء معلّمه، أجمل الغزليات الصوفية، وقد احتوى هذا السفر العظيم على أكثر من 26 ألف بيت شعر، إضافة إلى 1760 رباعية، ومجموعة من الرسائل الموجّهة إلى شيخه التبريزي، الذي كانت علاقته به هي علاقة "المريد" "بالرائد"، حيث كان يكبره بنحو 30 عامًا، فهو في سن الستين، في حين كان الرومي في سن الثلاثين. وظلّ وفيًا لمعلّمه ولذكراه حتى وفاته وبلوغه السبعين من عمره، وهو القائل "الوداع لا يقع إلّا لمن يعشق بعينيه، أما ذلك الذي يحب بروحه وقلبه فلا انفصال أبدًا".

ربما كانت فرقة الدراويش تجسيدًا حيًا لألم الرومي وإحساسه بالفداحة والفقدان، مثلما هي إحساس عبر الحركة اللولبية الطقسية الروحية بالتوحّد بين الإنسان وخالقه، والثناء على النبي محمد (ص) وترنيمات عن الحياة والكون والخلق والشمس والقمر والنجوم وجميع الكائنات غير الحية والنباتات والحيوانات، مثلما تعكس إحدى حركاتها مراحل الولادة وموت "الأنا"، ورمزيات القبر والكفن والإيمان بوحدانية الخالق، دون نسيان قراءات من القرآن الكريم، وهكذا تنتهي الرحلة.

الرقصة الدوارة هي بحث عن التواصل مع المحبوب، أو حتى إعادة حبل الوصل مع الغائب عن طريق دوران تأملي، يشكّل مصدر طاقة بقدر ما هو مصدر إلهام، بل هو مصدر طاقة وإلهام للمتلقّين أيضًا، وهذا هو الإحساس الذي هيمن على تلك الساعة الذهبية من الخشوع. هكذا يصبح الإنسان على الرغم من كونه فردًا، مجموعًا بالتوحّد مع الآخرين، والرومي هو القائل "عندما تضيء المصباح الخاص بك، فأنت لست فردًا، بل الآلاف".

يمنح شعر الرومي الإنسان سلامًا داخليًا لدرجة الابتهاج بالحياة والشعور بالطمأنينة والأمل والإشراق، فهو مولود من العشق كما يقول، واللقاء بالمحبوب كان الولادة الثانية، حيث الوجد والوله والصبابة والعشق والحب، وهو جسره للوصول إلى مدارك الكمال.